الكاتب الإسباني ماريو بارغاس يوسا في دمشق غداً
يمتاز (يوسا) بثقافة موسوعيةشاملة؛ فهو يعرف في الأفلاك والأنواء والنبات والجماد والأحياء البحرية والسباع والأيائل وعادات وتقاليد الشعوب، وفي الموسيقا والغناء والتصوير والنحت.. ويجيد تحليل النفس البشرية، وتوصيف القبح والإمعان فيه حتى التقزز، ويتسامى مع الجمال حتى درجة العبادة، وستكون المرأة هماً من همومه الكثيرة المؤرقة، وسيفتتح بها جل أعماله الإبداعية.
ففي أولى كلمات رواية «حفلة التيس» سيضعنا يوسا أمام أنثى ذات اسم اشكالي هو (أورانيا) الذي يوحي باسم كوكب، أو فلز منجمي «أو أي شيء آخر إلا أن يكون اسم امرأة ممشوقة القامة لطيفة التقاطيع..» وسيدعنا نوازن بين عبثية هذا الاسم، وبين إهانة مدينة (سانتودومنغو) القديمة، بتسميتها «مدينة ترو خييو» نسبة إلى ديكتاتورها الفظيع الجنراليسمو مو تروخييو مولينا! وستظل هذه الأنثى تطل علينا ـ استباقاً واسترجاعا ـ حتى يقدمها والدها السيناتور الانتهازي هدية لصاحب الفخامة (تروخييو) فيراقصها ثم يتأبطها إلى مخدع الزفاف وهو في السبعين من العمر، وهي في الرابعة عشرة من سني حياتها، ثم سيطردها بعد أن يجتاحها بأصابعه لعنانته!!.
وفي رواية «الفردوس على الناصية الأخرى» سيضعنا (يوسا) أمام امرأة أخرى، نموذج نسوي آخر، ابنة غير شرعية، تتزوج زواجاً لاتكافؤ فيه، اسمها فلورا، وأحياناً فلوريتا، ونعرف أنها أندلسية وأنها صاحبة مشروع اجتماعي كبير، هدفه الانتصار للمسحوقين في المجتمع البرجوازي، وفيها سينتقل بنا هذا الروائي الكبير إلى أمكنة وأناس تحتاج إلى حاسوب شديد الاتقان ليقوى على ضبطها وتبويبها وحفظها، ومع ذلك فإن القارئ سيظل معها حتى آخر كلماتها التي سترد قبل نقطة الختام في الصفحة 464 حسب الترجمة العربية التي قدمها المترجم المبدع الأستاذ صالح علماني ـ مشكوراً ـ كسابقتها.
عمم النقاد اصطلاح «الواقعية السحرية» على أدب أميركا اللاتينية ولعلهم أدرجوا أعمال (يوسا) البيروفي ثم الإسباني فيها؛ غير أني أرى أن هذا الأديب الفذ استطاع أن يقدم ما يمكن أن اسميه «الواقعية التشريحية» فما من مشهد بشري أو كوني، متحرك أو ثابت يرد في نصه الإبداعي دون وظيفة جوانية يتوجب استقصاؤها هي موجودة حكماً واقعاً أو تخييلاً، وهي فاعلة حكماً أيضاً، وإلا فلا ضرورة لإيرادها في النص.
في «الفردوس على الناصية الأخرى»، سيخيل للقارئ أنه أمام روايتين: فلورا ثم «كوكي» أو بول غوغان، وأنهما لا علاقة لهم ببعضهما وسيتساءل ما ذا يعني هذا الأسلوب؟ ولن يكتشف القارئ العلاقة الوطيدة فيما بينهما حتى يطوي العديد من الصفحات ليجد أن (كوكي) هو ابن (آلين شازال) بنت فلورا، أي أن فلورا هي جدته لأمه.
رحلة الجدة فلورا من أجل تحقيق مشروعها الكبير في تشكيل «الاتحاد العمالي» تطلبت كثيراً من المواجهة والمجابهة، فهي تعتقد أن مكافحة الفقر تكون بتغيير المجتمع وليس بالصدقات، وهي تعلم يقيناً أن رجال الدين: «اليهود والبروتستانت والمحمديين، وقبلهم جميعاً الكاثوليك كانوا على الدوام حلفاء للمستغلين ـ بكسر الغين ـ والأغنياء، لأنهم في مواعظهم يبقون الإنسانية المعذبة مستسلمة بوعدها بالفردوس». ص289. وبعد كفاح مرير في سبيل مشروعها هذا ستفتك بها الأمراض، وستغادر الحياة بالموت وهي في الحادية والأربعين من العمر. أما حفيدها بول غوغان، أو (كوكي) فإنه سيقضي عليه المرض أيضاً وهو في نحو الخمسين، وسيتسابق إليه اثنان من الكهنة، كل يريد أن يربحه إلى كنيسته، وسيكون السبق فجراً لأحدهما، حيث سينقله سريعاً إلى مقبرة جماعية لأنه صار فناناً مرموقاً وأن لوحاته شكلت ثروة، وذلك بعد أن كان منبوذاً من الكنيستين معاً.
ما ريو بارغاس يوسا مرحباً بك في دمشق، وسيكون موعدنا معاً غداً الأربعاء ـ الرابع عشر من شهر حزيران الجاري لنستمع إليك وتستمع إلينا، ونسألك عن شخصية أندلسية أخرى هي (إسماعيليو).. لماذا وقف باكياً وحيداً تقريباً لحظة وفاة فلورا.. هل لأنه أندلسي هو الآخر، أم لأنه أحبها كأنثى فحسب؟!.
عبد الرحمن الحلبي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد