الفرقة الناجية من الديني إلى السياسي
الجمل ـ عبد الله علي: روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: ((ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)).
وقد اتفق المسلمون على صحة سند هذا الحديث لأن سلسلة رواته متينة ومؤدية إلى المصدر حسبما تقتضي شروط الرواية الموضوعة من قبل علماء الحديث وبالتالي لا مجال للشك في صدوره عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
واتفاق المسلمين ـ رغم اختلاف فرقهم ـ على صحة هذا الحديث، دفع بكل فرقة منهم إلى التمسك به والاستشهاد بمضمونه لاثبات أنها هي الفرقة الناجية الوحيدة وأن الفرق الأخرى في النار. وما زال هذا الاستشهاد بالحديث سارياً حتى أيامنا هذه وربما كان آخر من استخدمه هو الشيخ القرضاوي في بيانه الصادر مؤخراً دفاعاً عن تصريحاته ضد الشيعة والتشيع حيث قال فيه: ((نحن أهل السنة نوقن بأننا وحدنا الفرقة الناجية، وكلُّ الفرق الأخرى وقعت في البدع والضلالات)). ولا يقتصر الأمر على الشيخ القرضاوي إلا أننا ذكرناه كونه آخر من استخدم هذا الحديث بشكل صريح وعلني، أما الواقع فهو أن جميع الفرق الاسلامية دون استثناء تستخدم هذا الحديث بنفس الشكل الذي عبر عنه الشيخ القرضاوي. وقد أدى اعتقاد كل فرقة من الفرق الاسلامية بأنها هي الفرقة الوحيدة الناجية إلى نتيجة حتمية مستفادة من نص الحديث وهي أن جميع الفرق الأخرى هي فرق ضالة ومصيرها النار، وهكذا احتدمت حمى التنافس بين الفرق على تكفير بعضها البعض، وهذا التكفير المتبادل أدى بدوره إلى انعزال الفرق عن بعضها البعض دينياً واجتماعياً وإنسانياً وانتهى الأمر إلى اعتقاد كل فرقة في نفسها بأنها هي الاسلام الصحيح وما عداها بدع خارجة عن حظيرة الدين الحنيف.
وقد انطوى هذا الاعتقاد على أمرين اساسيين: الأول أن كل فرقة أصبحت تؤمن بشكل يقيني قاطع أنها تملك الحقيقة الكاملة وحدها، والثاني أن كل ما يصدر عن الفرق الأخرى هو بدع وضلالات غايتها طمس هذه الحقيقة وهي بالتالي ضد الاسلام وينبغي "التعامل معها" على هذا الأساس.
وبما أن الفرق الدينية في النهاية هي النسيج المكون للمجتمع الاسلامي وبما ان الدين يلعب دوراً جوهرياً في بناء الفكر والسلوك الانساني في هذا المجتمع المنقسم فقد كان من السهل أن تنتقل مفاهيم مثل احتكار الحقيقة ورفض الآخر من مجال العقيدة والايمان إلى مجالات الحياة الأخرى وعلى رأسها المجال السياسي.
وهكذا لم تعد الفرقة الناجية مفهوماً دينياً بحتاً وإنما صار لها مضمون سياسي فأصبح الحزب الحاكم في معظم الدول العربية والاسلامية ينظر إلى نفسه على أنه يملك وحده الحقيقة وقيم الوطنية وأن غيره من الأحزاب الأخرى المعارضة له بعيدة كل البعد عن الحقيقة وأن خلاف هذه الأحزاب ومعارضتها وتنافسها مع الحزب الحاكم المحتكر لقيم الوطنية ما هو إلا دليل على خيانتها وعملها ضد مصلحة الوطن التي لا يعلم بها إلا هو. وهكذا كما يقول الدكتور حسن حنفي ترسب في وعينا القومي تكفير كل فرق المعارضة واستبقاء اجتهاد واحد صائب هو اجتهاد السلطة القائمة.
هذا التوظيف الايديولوجي لحديث الفرقة الناجية انتهى بالمسلمين إلى نتيجة لا ينتبه إليها أحد وهي أنه لم يعد هناك إسلام ولا فرقة ناجية ولا ما يحزنون وليس هذا كلاماً نظرياً يقال في الهواء وإنما هو حقيقة فعلية مدعمة بأدلة شرعية ولا سيما بدليل الاجماع الذي يستمد حجيته من قول الرسول (لا تجتمع أمتي على خطأ) حيث نلاحظ أن الاجماع متحقق بين المسلمين على الحكم بتكفير أو تبديع كل فرقة من الفرق الاسلامية، ففي خصوص كل فرقة على حدا هناك أثنان وسبعين فرقة تقول بضلالها وكفرها وتدور الدائرة لتشمل كل الفرق الاسلامية الأخرى دون استثناء.
وأصبحت النجاة الوحيدة التي يمكن أن تصل إليها أي فرقة هي قدرتها على الهيمنة والسيطرة ونجاحها في بسط نفوذها على المجتمع في مرحلة تاريخية معينة وهكذا تصبح القوة هي معيار النجاة وليس مدى الالتزام بسنة الرسول لذلك ليس غريباً أن نلاحظ أن أقسى المعارك التي خاضها المسلمون وأكثرها دموية هي تلك التي خاضوها ضد بعضهم البعض لأن كل معركة ضد فصيل إسلامي هي معركة لتحقيق النجاة المطلقة.
ولكن أليس علينا أن نتوقف قليلاً هنا كي نتساءل: هل يعقل أن تكون هذه هي غاية الرسول من الحديث السابق؟؟؟
بالتأكيد لا وليس في منطوق الحديث أو فحواه ما يمكن أن يؤدي إلى هذه النتيجة المؤسفة من الانقسام والتشتت في المجتمع الاسلامي ومن الاستبداد والطغيان في المجتمع السياسي. إلا أن التوظيف السيء والمقصود لهذا الحديث من قبل النخبة الاسلامية الحاكمة لتدعيم شرعيتها من جهة والحصول على غطاء شرعي للإجهاز على الحركات المعارضة لها من جهة أخرى هو ما أدى إلى هذه النتائج السلبية والكارثية على الواقع الاسلامي. أما حقيقة الحديث كما نطق به الرسول فهو حضٌّ على الاتحاد وتحذير من الفرقة والانقسام ويفهم ذلك من خلال أمور:
1- لا يمكن فهم الحديث على أنه من الأحاديث "المعجزة" التي تتضمن نبوءة ما أو إخباراً بعلم الغيب، وإنما ينبغي فهمه على سبيل التهويل من مصير الافتراق والانقسام والتشتت بين المسلمين. ودليل ذلك أن الواقع يشهد بانقسام المسلمين إلى أكثر من ثلاثة وسبعين فرقة وقد تجاوز الانقسام هذا العدد بفارق كبير مما يخرج الحديث من إطار النبوءات أو العلم بالغيب لتكذيب الواقع له وبالتالي يجب فهمه على سبيل آخر وهو السبيل الذي أشرنا إليه أي التهويل من الفرقة والانقسام.
2- لم يحدد الرسول الفرقة الناجية تحديداً عينياً جازماً ولم يسمها بالاسم وهذا يدلل مرة أخرى على أن قصد الرسول اتجه إلى تعزيز اتحاد المسلمين وحضهم على عدم الانقسام من خلال التمسك بسنته، وبالتالي لا ينبغي الكلام في تفسير هذا الحديث عن "فرقة ناجية" محددة ومعروفة بالاسم كما فعل ويفعل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وإنما ينبغي فهم الحديث على أنه يحدد طريق النجاة وهو ما كان عليه الرسول وأصحابه فكل من التزم بسنة الرسول فهو ناجٍ بغض النظر عن الفرقة التي ينتمي إليها.
من شأن هذا الفهم لحديث الرسول أن يخلصنا من عقلية التكفير المتبادلة ويشجعنا أن ننظر إلى بعضنا البعض ككائنات بشرية وليس كفيروسات دينية.
وأهم ما يترتب على هذا الفهم الجديد لحديث الرسول أنه يؤدي إلى قبول التعددية واحترام الرأي الآخر والتخلص من وباء التكفير والتبديع والتضليل، وسوف تتبدى أهمية هذا الفهم عملياً إذا انتقل من المجال الديني إلى المجال السياسي حيث من شأنه أن يبين أن الحقيقة المطلقة ليست ملك أي حزب من الأحزاب أو تيار من التيارات وأن الاختلاف ليس دليل خيانة وعدم وفاء للوطن بقدر ما هو محاولات مخلصة لتحقيق المصلحة العليا واجتهادات للوصول إليها وبالتالي فإن تداول السلطة من حزب إلى آخر لا يعني نهاية مصير الدولة كما توحي أدبيات الأحزاب العربية وإنما ينبغي النظر إليه على أنه تبادل أدوار ومساهمة أخرى من فصيل وطني في بناء الدولة وحمايتها وحريٌّ بهذا أن يشجع على التعاضد والتعاون حتى في إطار الاختلاف بدل التكفير والاقتتال.
التعليقات
للتنويه فقط
إضافة تعليق جديد