الفاتيكان يفتح أبوابه للإنجيليّين
تصديق البابا بنديكتوس السادس عشر، أواخر الشهر الماضي، على «دستور رسولي»، وهي التسمية التي تطلق على القوانين الفائقة الأهمية في الكنيسة الكاثوليكية، يتيح للإنجيليين الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية مع الاحتفاظ ببعض الأمور المتعلقة بطقوسهم. خطوة وصفها معنيّون بأنها «تاريخية» وتهدف إلى جذب الإنجيليين الذين يواجهون مشكلات مع التوجهات الجديدة داخل كنيستهم، وفي طليعتها سيامة كهنة متزوجين وكاهنات ومباركة الزيجات المثلية.
القانون أرسى «هيكلية قانونية» خاصة، وذلك «استجابة للطلبات العديدة التي رفعتها الى الكرسي الرسولي مجموعات من الكهنة والمؤمنين الإنجيليين من مناطق عديدة حول العالم»، حسبما أعلن رئيس مجمع عقيدة الإيمان في الفاتيكان، الكاردينال وليام ليفادا.
وبحسب القانون الجديد، فإن شرط عزوبية الكاهن يجب أن يحترم، أما الكهنة الإنجيليون المتزوجون أصلاً فسيتم النظر في أوضاعهم «كل حال على حدة». وبالنسبة إلى المؤمنين الإنجيليين الراغبين في الانضمام الى الكنيسة الكاثوليكية، يتعين عليهم أن «يعبّروا عن رغبتهم هذه خطياً»، وأن يلتزموا بـ«التعليم الديني للكنيسة الكاثولية». إلا أن القانون يجيز للأنغليكانيين المنضمين الى الكنيسة الكاثوليكية المحافظة على ليتورجيا «خاصة بالإرث الأنغليكاني».
وقبل إعلان القرار، كان الفاتيكان يسمح بتحول الإنجيليين، الذين يشعرون بالاستياء من بعض قوانين طائفتهم، بشكل فردي إلى الكاثوليكية. بيد أن القرار الأخير يتيح لمجموعات كبيرة من الإنجيليين من مختلف أنحاء العالم الانضمام إلى الأبرشيات الجديدة برئاسة أساقفة إنجيليين سابقين.
القرار الجديد سيسمح أيضاً للقساوسة الإنجيليين المتزوجين، وحتى اللاهوتيين، بأن يصبحوا قساوسة كاثوليكيين، وذلك على الطريقة نفسها التي يمارسها مسيحيو الشرق المتواصلون مع الكنيسة الكاثوليكية، على سبيل المثال في الطائفة المارونية، حيث يوجد كهنة متزوجون.
لكن على الرغم من اعتبار البعض أن القرار مؤشر إلى التقدم على مسار محادثات الوحدة القائمة بين الكاثوليك والإنجيليين منذ عقود، والتي تهدف إلى «تحويل الإنجيليين إلى الكاثوليكية»، إلا أن الخطوة الأخيرة لا تدخل تحت هذا الإطار، بل ضمن إطار إعادة أعضاء من الكنيسة الإنجيلية إلى كنف الكنيسة الأم.
ويضيف هذا القرار مشكلة جديدة إلى المشكلات التي تعاني منها الطائفة الإنجيلية، التي تضم 77 مليون شخص حول العالم، والتي تسعى إلى التعامل مع الانقسامات المذهبية العميقة التي تهدد بشقاق دائم بين أتباع هذه الطائفة.
يشار إلى أن هناك العديد من المشكلات التي تعصف حاليّاً بكنيسة إنكلترا الإنجيلية، أبرزها انقسام الكنيسة حول سيامة المرأة لدرجة كاهن، بالإضافة إلى تعيين أساقفة يجاهرون بمثليتهم الجنسية، والموافقة على زواج المثليين. فقد صوّت المجلس العام لكنيسة إنكلترا لمصلحة ترسيم المرأة أسقفاً نهاية عام 2008، ضارباً عرض الحائط بتهديدات 1300 قسيس بالانشقاق عن الكنيسة. كما قام أحد الأساقفة بمباركة زاوج مثليين داخل الكنيسة في لندن، الأمر الذي جعل كثيرين يطالبون بتجريده من رتبته.
تاريخ الانفصال
يعود انفصال الكنيسة الانكليزية، التي تعرف بالإنجيلية، عن الكنيسة الكاثوليكية بروما إلى عام 1534، عندما رفض البابا بولس الثالث فسخ عقد زواج الملك الانكليزي هنري الثامن، الذي أراد أن يتزوج بامرأة تنجب له وريثاً لعرش بريطانيا. فكان أن فصل كنيسة بريطانيا عن سلطة روما، بإعلان أن التاج الإنكليزي هو «أعلى سلطة على الأرض لكنيسة انكلترا» وأن بابا روما ليس لديه «أي سلطة إضافية في انكلترا من أي أسقف أجنبي».
وشهدت تلك الحقبة مصادرة أملاك الكنيسة الكاثوليكية في بريطانيا وحل الرهبنات، بالإضافة الى إعدام عدد من الكهنة. كما فرض الانضمام الى الكنيسة الإنجيلية وجعل الكاثوليكية ديناً غير شرعي. وبقيت الحال على ما هي عليه لمدة 250 عاماً ولم يتم إلغاؤها إلا عبر عدد من الإصلاحات القانونية في القرن التاسع عشر، عرفت بـ«تحرير الكاثوليك»، وشملت إزالة عدد من القيود التي كانت مفروضة على الكنيسة الكاثوليكية في بريطانيا ومستعمراتها. ولكن هذا القانون استثنى الحرم المفروض على الكاثوليك أو من يتزوج من كاثوليك على اعتلاء عرش بريطانيا.
أما اليوم فترى الكنيسة الأنجيلية نفسها جزءاً من الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية. كما يرى البعض منهم كينستهم كاثوليكية وتم إصلاحها، فهي تمثل عندهم الكاثوليكية غير البابوية. وبالنسبة إلى آخرين فإن الإنجيلية تعدّ بروتستانتية من دون شخص مهيمن عليها مثل مارتن لوثر.
اهتمام الإنجيليين بالوحدة المسيحية يمكن رده إلى حقبة الإصلاح داخل الكنيسة والحوار مع الكنيسة الأرثوذكسية واللوثرية في القرن السادس عشر. وفي القرن التاسع عشر، مع صعود «حركة أوكسفورد»، ظهرت اهتمامات لتحقيق الاتحاد مع الكنيسة الكاثوليكية في روما. ففي عام 1833، ظهر تيار قوي داخل الرأي العام موجه ضد الكنيسة الإنجيلية، التي تصدت للدفاع عنها وقتها فرقة صغيرة من طلاب أوكسفورد وكتابها، الذين تدريجاً تجمّعوا تحت قيادة جون هنري نيومان، تحت اسم «حركة أوكسفورد». وكان نيومان يأمل أن يتم التوصل الى شبه سلسلة متواصلة مع التقليد الكاثوليكي يمكن أن تقدم كرابط بين الكنيسة الإنجيلية المعاصرة والكنيسة الكاثوليكية ما قبل الانفصال.
إلا أن المفارقة تمثلت بأن عدداً كبيراً من الذين شاركوا في الحركة، وخصوصاً قائدها، أصبحوا كاثوليكاً. غير أن البعض يرى أن تأثير «حركة أوكسفورد» خلّص الكنيسة من التدفق المتواصل للتحول إلى الإيمان الكاثوليكي، وقد عرفت تلك الحقبة باسم «إعادة إحياء الكنيسة الإنجيلية».
وشهدت السنوات اللاحقة تشكيل وتطور مدرسة للفكر الديني حاولت جاهدةً كثلكة كنيسة انكلترا. ورأت هذه المدرسة أنه في مواجهة الأدلة التاريخية، فإن الكنيسة الانجيلية هي استمرارية للكنيسة الكاثوليكية القديمة في البلاد، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ منها.
هذه الرغبة بالعمل نحو اندماج كامل مع الكنيسة الكاثوليكية أدى الى إنشاء كاتدرائية شيكاغو ـــــ لامبس، التي تمت الموافقة عليها في عام 1888 من قبل مؤتمر لامبس الثالث، الذي يجمع كرادلة الطائفة الإنجيلية ويترأسه أسقف كانتربري كأول بين متساويين، للتداول في شؤون الطائفة ويعقد تقريباً كل عشر سنوات.
وكان أبرز ما أنتجته محاولات الوحدة بين الكنائس، والتي كان للإنجيليين مساهمة كبيرة فيها، قيام المجلس المسكوني في أواخر القرن التاسع عشر الذي ساهم كثيراً في التقارب بين الكنائس وفي تقريب وجهات النظر بالحوار اللاهوتي.
وبدأت الحركة المسكونيّة كمجهود للتّعاون المشترك للتّبشير والعمل الإرساليّ ما بين الطّوائف الإنجيليّة في بداية القرن التّاسع عشر. ثمّ تطوّر الفكر المسكونيّ في القرن العشرين إلى حوارات ما بين هذه الطّوائف ومحاولات دمج تنظيميّ لكنائسها المختلفة. وفي النّصف الثّاني للقرن العشرين، نما الحوار والتّعاون ما بين الطّوائف الإنجيليّة والأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة على المستوى الدوليّ. ولتحقيق هذا النّوع من التضامن، بات التّركيز الأساسي في العمل الكنسي على الجانب الاجتماعي. ضعف الأساس اللاّهوتي، ونما مكانه التشديد على قوانين الإيمان المسكونيّة، باعتبارها أساساً لدستور الكنيسة.
ومن تطوّر هذه الروافد الثلاثة والتقائها تشكّل مجلس الكنائس العالمي أو المجلس المسكوني للكنائس من اجتماع 147 كنيسة بروتستانتية وأنغليكانية. وفي عام 1961 انضمت الكنائس الأرثوذكسية الى المجلس. أما الموقف الكاثوليكي الرسمي فما زالت تمثله الرسالة البابوية العامة الصادرة عام 1928 بعنوان «أرواح البشر» وفيها أنه ليس هناك سوى كنيسة واحدة، فلا مبرر لطرح «اتحاد الكنائس». وأن الهدف يبقى هو ذاته: عودة المنشقين الى الكنيسة الأم، أي أن الوحدة المسيحية تعني عودة الكنائس المنفصلة الى «كرسي بطرس».
رغم ذلك، فإن الفكرة المسكونية تغلغلت داخل الكنيسة الكاثوليكية، وأبرز روادها الأب بولس كوتورييه الذي أسس «أسبوع الصلاة من اجل الوحدة المسيحية»، ثم البابا يوحنا الثالث والعشرون الذي أنشأ عام 1960 «أمانة سر وحدة المسيحيين» وأرسل وفداً مراقباً الى مؤتمر نيودلهي (1961). كما نشر البابا يوحنا بولس الثاني رسالة عامة عن الموضوع عينه تحت اسم «ليكونوا واحداً».
المباحثات لا تزال أولويّة
يحاول الزعيم الروحي للكنيسة الإنجيلية العالمية، كبير أساقفة كانتربري روان ويليامز، الذي لم يُستشر بشأن القرار الذي أصدره البابا بنديكتوس السادس عشر، بل أُبلغ به قبل إعلانه بساعات فقط، التقليل من أهمية القرار، قائلاً إنه «ليس له أي تأثير سلبي على العلاقات والمباحثات بين الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والطائفة الإنجيلية». مباحثات قال رئيس مجمع عقيدة الإيمان في الفاتيكان، الكاردينال وليام ليفادا، إنها «لا تزال أولوية».
وفي مؤشر إلى تطور العلاقات بين الكنيستين، من المقرر أن يزور ويليامز الفاتيكان في 21 تشرين الثاني الجاري، ويلتقي بنديكتوس السادس عشر. كما سيشارك في احتفالات الذكرى المئوية الأولى لولادة الكاردينال يوهانس ويلبراندز رائد المسكونية الكاثوليكية.
حبيب الياس
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد