الصورة القرآنية ليست أقل تمجيداً من الصورة الإنجيلية
يعتمد الاستاذ في تاريخ الديانات ميشال دوس في كتاب "مريم المسلمة"، ترجمة دار "قدمس"، على النص القرآني، ليبين ان تراكب الصور هذا، يجعل القرآن يسترجع العلاقة بين التوراة والانجيل، وهو يلقي اضاءة جديدة على وضع المرأة في نظر الله، وعلى العهد والاصطفاء والنظر، وعلى العلاقة الفعالة بين المعبد والبرية. وتبرز صورة مريم، لدى الانتهاء من التحليل الدقيق، أحد المفاتيح الرئيسية في تفسير القرآن، ويظهر ميشال دوس كيف ان صورة مريم في القرآن ليست أقل تمجيداً عنها في الاناجيل، وان سرها لا يقل مركزية. بل ان مكانتها في ايثار الله للناس وقصده حيالهم، ماثلان فيه ضمن بعض المقاطع، مثولا أكثر توسعا وتفصيلا.
يضع دوس الصورة القرآنية لمريم ازاء صورتها في الإنجيل والتوراة. فهو لم يفعل العكس كما درج عليه في الغالب عدد من الباحثين الغربيين في الاسلاميات، الذين عكفوا على دراسة صورة مريم. فغالبا ما اقتصرت المؤلفات الفرنسية النادرة والمكرسة لصورة مريم القرآنية، على الحكم على الرواية القرآنية انطلاقا من نموذج الاناجيل. ومن هذه المقارنة نجمت الملاحظة العامة القائلة ان كل صورة مشتركة بين الكتب التوحيدية تستمد هويتها الكتابية وبعدها المثالي الخاص من السياق العام للوحي الذي اندرجت فيه. يتبين عندئذ ان اشكال الوحي في التوحيد الابرهيمي، بدل ان تتعارض وتتنابذ، بسبب اختلافاتها وتبايناتها، تتجاوب وتتحاور.
بيد ان المسألة المركزية التي تطرح نفسها في شأن صورة مريم في القرآن هي مسألة مبرر وجودها ضمن هذا السياق، وبأي صفة تظهر مكانتها على تلك الدرجة من السمو، بل التفرد. للوهلة الاولى، ليس من سبب يدعو القرآن الى ذلك، هو الذي لا يعترف بألوهية يسوع ولا برسالة فدائه، ولا سيما ان المكانة الاجتماعية للمرأة تبدو في المجتمع العربي أيام الرسول، وحتى ضمن
اطار الوحي القرآني، هي مكانة هامشية وتابعة لمكانة الرجل.
ولأن القرآن ميّز مريم فهو وصفها "واصطفاك على نساء العالمين"، حيث نقع على اسم مريم مذكوراً في القرآن اكثر مما هو مذكور في العهد الجديد بأجمعه، في اربع وثلاثين واقعة في مقابل تسع عشرة مرة في الأناجيل واعمال الرسل (لا وجود لاسمها في الرسائل ولا في الرؤيا). تتميز سورة مريم بتلون عام ذي عذوبة كبرى وحميمية.
تبدأ قصة مريم في القرآن بواقعة لا تأتي بها الأناجيل، حيث يبين بصورة سردية بدلا من التجريد، مفصلا اساساً في المخطط الالهي تجاه الناس المقصودين في اللاهوت بتعبير "ترتيب الهي". ويقترح القرآن، روايتين لقصة مريم، في سورتين مختلفتين تماما من حيث اضاءتهما وتوجههما على التوالي. تتبع سورة مريم التسلسل التاريخي الوارد في انجيل لوقا، بدءا من تبشير زكريا، والسابق لزيارة الملاك لمريم، فترد هنا، في واقع الأمر، الحوادث الاولى ذات الدلالة للعهد الجديد. اما السورة الثانية فتوضح من ناحيتها، كما تدل تسميتها (آل عمران)، تمفصل العهدين بدءاً من الحمل بمريم ونذرها من امها، المذكورة بصفتها فقط، امرأة عمران.
هذه المكانة الخارقة التي خصت بها مريم، تثير الدهشة ولا سيما ان القرآن بخلاف الأناجيل لا يعترف بسر التجسيد والفداء الذي يشكل اساس الايمان المسيحي نفسه. بل هو في معنى من المعاني لا يعترف بألوهية ذاك الذي يدعوه عيسى بن مريم، ولا بحقيقة درب آلامه، ولا بموته على الصليب، ولا بقيامته. فالمسيح وفق القرآن، لم يمت بل رفعه الله اليه من المرور بمحن العذاب. والواقع ان القرآن يغفل ذكر آلام المسيح وموته على الصليب. لنذكر في هذا الشأن ان بعض الغنوصيين كانوا يعيدون النظر في ذلك الموت المهين للمسيح على الصليب (بل ينفونه). المدهش في القرآن، انه في مجادلته، لا يتوجه قط الى المسيحيين الذي يشكل عندهم موت المسيح وقيامته سراً اساسياَ مؤسساً، بل يوجه السخط فقط على زعم اليهود بأنهم هم الذين قاموا بقتله. يبدو موقف القرآن حيال المسيح في منتهى الحساسية. ففي حين يتحاشى ان يؤكد ما لا يوصف بتعابير وتعريفات محددة، فإنه يكتفي بإدانة الصيغ المغلوطة، المحتملة او الواقعية، التي تطعن بها، من ناحيتها الكنيسة الكاثوليكية.
يكرس القرآن حكايتين متواصلتين نسبيا، مختلفتين جدا في الشكل وفي المضمون، وكأن الوحي بهما متباعد زمنيا. تقع الحكاية الاولى في سورة مريم، وهي وفقا للتقليد مكية، اما الاخرى فهي سورة آل عمران، التي نزل بها الوحي في المدينة، ويرد ذكر مريم خارج حدود هذين المرجعين الرئيسيين، في خمس سور اخرى تتوزع زمنيا حول هذين القطبين. وعلى رغم ان سورة مريم لا تقبل الفصل عن ابنها، سواء في القرآن او في الاناجيل، فان المرجعية الى يسوع ليست مع ذلك متماثلة بين طرف وآخر، فالصفة العامة عن مريم لدى المسيحيين هي "أم الرب"، اما في القرآن فمريم هي التي تدخل في تسمية ابنها عيسى بن مريم، وهذه الدلالة تجعلنا نشعر سلفا ان القرآن يتصدى لسر يسوع انطلاقا من سر أمه.
ينسب النص القرآني حول بشارة مريم وحملها بعيسى دورا للروح، اساسيا ومركزيا. ففي حين نرى الملائكة في سورة آل عمران هم الذين يبشرون مريم في الهيكل بالنبأ السعيد، فإن روح الله في سورة مريم هو الذي يفاجئ مريم على درب هجرتها، بعدما غادرت قومها. حدد التراث الاسلامي، كما من قبله التراث المسيحي، هوية ملاك البشارة بجبريل، لكن القرآن لا يقول ذلك بوضوح، ويشير في المقابل الى جبريل بالاسم حاملا القرآن الى الرسول بأمر الهي. وتشكل مجازية الارض العطشى التي تستعيد الحياة بغتة تحت المطر الغزير، مثال الحياة التي تمنح بعد الموت. تكمن احدى المزايا الاولية للسورة القرآنية في شأن مريم، في صمتها. وكانت المرة الاولى تولت فيها الكلام، في اثناء البشارة، لتتحدث الى الملائكة، لا البشر، مؤكدة عزمها على البقاء عذراء.
يعترف الكاتب في نهاية جولته عبر النص القرآني بجمال صورة "مريم المسلمة" وقوتها واصالتها وعظمتها الاستثنائية. ولئن لم تكن مريم في القرآن تعرف انها "أم الرب"، فان كمالها نموذجي ويكمن في مسعاها المطلق للتكيف مع الإرادة الالهية حتى ذروة الزهد. ويتجلى في ذلك مثالها شاملا، لا يقبل المطابقة، معروضا في ما وراء الزمان والمكان. وذلك ما يجسده الاختصار النموذجي الذي يمجده القرآن. وهي تجدد تفعيل الشهادة الوحدانية التي يشكل ابرهيم فيها الوجه المعترف به كونيا، لكنها تفعل ذلك بصفتها امرأة، وذلك ما يضيف اليها، بحسب القرآن، قربا جديدا من السر الالهي.
راشيل عيد
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد