الشمول عند هيغل
إن صفة الشمول هي مصدر قوة الفكر الهيجلي ومظهر ضعفه في الآن نفسه؛ فلقد كان يتملَّك هيجل شعورٌ طاغٍ بأن عصره يمثل — في جميع الميادين — قمَّة الأحداث التاريخية التي سبقته، ويمثِّل أكملَ صور تحققها في الوقت ذاته، ومن هنا أحس بالرغبة في تقديم «كشف حساب» للحضارة على حدِّ تعبير «لوفيفر»، وإيجاد مركِّب يؤلِّف بين كل عناصرها، وكان الهدف الرئيسي لفلسفته هو تحقيق الوحدة بين الفكر والواقع وبين الشكل والمضمون، على نحوٍ يضمن الجمع بين هذه الأطراف وتجاوزها في مركَّب أعلى؛ ففلسفة هيجل كانت — في نظره — مركَّبًا يضم كلَّ ما سبقها، لا في ميدان الفلسفة فحسب، بل في كل ميادين نشاط الروح الإنسانية، ولم يكن هيجل يسعى إلى تحقيق هذا الضم بطريقة تلفيقية، أو عن طريق الجمع بين عناصرَ متنافرة فيما بينها، بل كان هدفه هو أن يؤلِّف منها مركَّبًا عضويًّا متماسكًا، وكان يرى في ذلك لبَّ النزوع الفلسفي الحقيقي وجوهره، ولقد كان يتملكه شعور واضح بأن فلسفته وصلت إلى العمق الباطن للأشياء، وقدمت تفسيرًا للواقع في كليته وبجميع جوانبه، وهو شعور يستبعد تمامًا روح الشك واللاأدرية كما سادت في القرن الثامن عشر، وكما ظلت آثارها واضحةً في أول مذهب فلسفي ألماني كبير، وأعني به مذهب «كانْت».
لقد كان للمذهب الفلسفي عند هيجل بناءٌ مذهل من حيث شموله وإحكام الانتقال من كل خطوة إلى الخطوة التالية فيه؛ فمن الروح كما هي في ذاتها وفي تجرُّدها — أي من المنطق — ينتقل البحث إلى الروح كما تصبح موضوعية في فلسفة الطبيعة، ثم إلى الروح كما تعود إلى ذاتها في فلسفة الروح، وفي داخل كل مظهر من هذه المظاهر يتحرك الفكر على نفس النحو المحكم، ولو أخذنا فلسفة الروح وحدَها كمثال لوجدناها تبدأ بالأنثروبولوجيا (بالمعنى القديم لهذا اللفظ قبل أن يصبح دالًّا على علم اجتماعي متخصص)، وهي دراسة الإنسان على نحوٍ لا يخلو من التأثُّر بالطبيعة كما هي الحال في علم النفس، ثم تنتقل إلى دراسة الظواهر الاجتماعية بوصفها درجةً أعلى من درجات تجلي الروح، بالقياس إلى الظواهر النفسية الفردية، فتبدأ بالقانون الذي هو في أساسه علاقةٌ خارجية للإنسان بمجتمعه، طابعها سلبي في الأساس، وتنتقل إلى الأخلاق التي هي الإرادة الباطنة حين تحفظنا على إطاعة قوانين المجتمع، والتي تتجلَّى أولًا في حياة الأسرة ثم المجتمع المدني ثم الدولة، وهي أعلى مظاهر الروح الموضوعية، وينتقل الفكر بعد ذلك إلى الروح المطلقة، وتتمثل أولًا في الفن ثم الدِّين وأخيرًا الفلسفة.
في كل مرحلة من هذه المراحل يكتب هيجل كتابةً تفصيلية متعمقة تستحق أن تُعامَلَ على أن لها قيمتها الذاتية الكامنة، بغض النظر عن قيمتها داخل المذهب المتكامل، وفي كلِّ ما يكتبه هيجل يتخذ تفكيره طابعًا موسوعيًّا ينم عن قدرةٍ مذهلة على الاطلاع والاستيعاب والإحاطة الشاملة، ولكن هذه الإحاطة الشاملة هي بعينها — في نظر الكثيرين — موطنُ الضَّعف عند هيجل، فهل يستطيع عقل واحد — مهما بلغ تعمُّقه — أن يحيط بكلِّ ما أنتجته الروح البشرية، أو حتى أن يدرك اتجاه هذه النواتج وحركتها وعلاقاتها وروابطها؟ ألا يؤدي شمول المذهب نفسه إلى الحكم عليه بالجمود والموت؟ إن «المذهب» حين يحاول أن يدرج في داخله كل مظاهر فاعلية الروح — من منطق وعلم طبيعي وأخلاق وتاريخ وسياسة وفن ودين وفلسفة — يحكم على هذه المظاهر ذاتها بالجمود؛ لأنه يفسِّرها جميعًا من خلال وضعها الحاضر، كما لو كان ذلك الحاضر وضعًا نهائيًّا لا يتسع لأي جديد، ولكن إذا كان الحاضر ذاته مجرد مرحلة في حركة لا نهائية، ألا يؤدي ذلك إلى زعزعة أركان المذهب، لا لأنه يجمِّد الحاضر فحسب، بل أيضًا لأنه يفسِّر الماضي من منظور الحاضر بوصفه غايتَه وهدفَ تطوُّره، مع أن هذا المنظور بدوره متحرك، وسرعان ما يتجاوزه ويطغى عليه تيار التطوُّرات اللاحقة؟
- فؤاد زكريا، من كتاب: "آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة" (1975).
إضافة تعليق جديد