“إنّه لمن الأهميّة بمكان بالنّسبة إلى مصير شعب، وإلى مصير الانسانيّة أن تبدأ التّربية الثّقافيّة من الموقع الصّحيح، لا من الرّوح (…) من الجسد…”
فريدريك نيتشه.
الجسد، ذلك المغضوب عليه، المدنّس اللّعين، أصل الشّرور ومنبع الرّذائل، رمز الإغواء وسبب الخطيئة … هذا هو التّاريخ المختصر للجسد، تاريخ تهميش وتحقير. لم يكن الجسد يوما رمزا للفضيلة، سواء بمعناها الأخلاقيّ أو حتّى بمعناها المعرفيّ، بل ولم يكن يوما حتّى شريكا للعقل في ذلك، هذا الأخير الّذي استفرد بكلّ ما يرمز للعلوّ والرّفعة. ونستطيع أن نلمس هذا الإقصاء المتعمّد لكلّ ما هو جسدي من دائرة المعرفة والفضيلة في مختلف مراحل التّفكير الفلسفيّ، بما في ذلك الحداثة الّتي اعتبرت نفسها تأسيسا لفلسفة الذّات، مختزلة إيّاها في تمجيد العقل وتأليهه.[i] لكن لنتمهّل قليلا: ما العقل وما الجسد أصلا؟ وهل هما بالفعل جوهرين متمايزين ومتعارضين؟
إنّها في حقيقة الأمر جملة من الاستفهامات الّتي تتناسل في أذهاننا ونحن بصدد التّفكير في الجسد الإنسانيّ، وفي هذه الازدواجيّة الّتي تفرض علينا (على وجه الخصوص نحن النّساء)، والّتي تجبرنا بشكل قهري أن نختار من بين تصنيفات وجوديّة جاهزة مسبقا: فإمّا أن نكون أجسادا، أو نكون عقولا، (إمّا جميلة/غبيّة، أو ذكيّة قبيحة). لكن دعونا نضع هذه القضية الآن جانبا، أملين أن نفصل القول فيها في مناسبة قادمة. ولننطلق من الإشكال العامّ المرتبط بوضعيّة الجسد وبتاريخ خلق تلك الرّؤية التّهميشيّة الّتي ترسّخت لدينا عنه حتّى اللّحظة.
لنعد إذن إلى تاريخ الجسد، تاريخ طويل من اللّعنة الشّيطانيّة الّتي تلاحق رغباتنا وشهواتنا، فتجعل كلّ شعور باللّذة يقابله تعميق للشّعور بالخطيئة. وكأنّ ضمائرنا تتعذّب كلّما ارتاحت أجسادنا. كما لو أنّ هذه الأخيرة محكومة بالقمع والكبت دوما، وحتّى وإن سمح لها بالاستجابة لطبيعتها، فلا يكون ذلك سوى وسيلة لأجل غاية “أسمى”، ألا وهي استمرار النّوع.
من هنا يبرز السّؤال الجوهري، والّذي يمكن أن نعتبره عصب النّقاش المحرّك لمقالنا هذا: كيف تمّ ترسيخ هذه الرّؤية التّبخيسيّة للجسد؟ وكيف تمّ إقناعنا أنّ الجسد زائد عن ماهيّتنا الحقيقيّة بل وربّما سجن لها؟ لكي نتمكّن من تفكيك هذا الطّرح المعقّد الّذي استحوذ على جلّ الفكر الانسانيّ، بما في ذلك الفكر الفلسفي، ربّما يتطلّب منّا الأمر العودة بضع خطوات إلى الوراء، ثمّ البحث بادئ ذي بدء عن جواب لهذا السّؤال الأوّليّ: ترى هل كان هذا هو الوضع “الطّبيعي” بالنّسبة للجسد دوما؟
يوحي التّأمل البسيط لتاريخ الحضارة الانسانيّة، ومجموع التّطوّرات الّتي شهدتها هذه الأخيرة، بتحوّل جذري ومفصلي يتعلّق برؤية الذّات الانسانيّة وتمثّلها لذاتها. ولا شكّ أنّ لهذا التّحول أسباب ومبرّرات سنفصل القول فيها في المحطّات الموالية من المقال. أمّا في ما يتعلّق بالمحطّة الأولى، فسنكتفي من خلالها باختزال ذلك التّحول في معادلة بسيطة: انتقال الذّات من الاكتفاء إلى اللّااكتفاء، فما المقصود بذلك؟
لقد كان الإنسان الأوّل بمثابة الإنسان المكتفي، أي بما معناه أنّه لم يكن أبدا كائنا مستلبا كما هو الحال بالنّسبة للإنسان المتحضّر. أمّا أوجه استيلاب هذا الأخير فهي متعدّدة: كائن يكون ما يجب عليه أن يكون، لا ما يريد أن يكون، مستلب دوما بهذا الـ”ما يجب”. ما يجب أن يفعل، وما يجب أن يمتلك، وما يجب أن يستهلك…. استيلاب عالم الحضارة هذا، خاصّة في صيغتها المعاصرة الّتي تطغى عليها القيم الرّأسماليّة، هو بالضّبط ما لم يعانيه الإنسان الأوّل. الأمر الّذي لم يساهم فقط في تحرير عقله، بل أيضا في تحرير جسده. هذا إذا ما اعتبرنا طبعا أنّ هناك انفصالا تامّا بين العقل والجسد كما سلفت الإشارة أعلاه.
لا شكّ أنّ صرخة الوعي الإنساني الأولى كانت صرخة نابعة من عقل مندهش يتساءل دون أن تقيّده إجابات جاهزة. هذا العقل الحرّ، ليس في الأصل سوى انعكاس لجسد حرّ، مشبع ومكتفي، جسد ينصت ويستجيب لنفسه دون أن يخاف من شيطانيّة رغباته.
لعلّنا نستطيع أن نصف هذه اللّحظات الأولى للجسد/العقل باعتبارها لحظات التّوازن والاكتفاء، ومن ثمّ فهي تلك اللّحظات الّتي كان فيها الإنسان كائنا طبيعيا، متصالحا مع ذاته ومع طبيعته. لحظات ما قبل ميلاد الضّمير المعذّب وتعميق الإحساس بالخطيئة بتعبير نيتشاوي. لا يتعلّق الأمر هنا بنظرة نوستالجيّة متحسّرة، وإنّما يتعلّق فقط برغبة في فهم كيف وصل بنا الأمر إلى تحقير أجسادنا معتبرين أنّنا بذلك نعبّر عن كوننا كائنات أخلاقيّة فاضلة.
سيتحوّل الإنسان الطّبيعي فجأة، من كونه كيانا واحدا، متناغما مع ذاته، إلى كيان مشروخ ومزدوج، من كونه جسدا، إلى كونه (عقلا)، أو(روحا)، أو(نفسا)… وهي مسمّيات مهما اختلفت فإنّها تحيل في النّهاية على المعنى عينه: جسد مدنّس ومشيطن وجبت محاربته باستمرار، تأديبه وتدريبه والسّيطرة عليه إلى حين التّحرر منه، لأنّه لا يلعب سوى دور العائق أمام بلوغ الحقيقة كما هو الحال مع أفلاطون[ii]، أو أمام تحرّر النّفس وبلوغها الحقّ كما الحال مع ابن سينا[iii]… وروح مقدّسة متعالية، يقتضي الارتقاء إلى مستواها تحقير كلّ لذّة وكلّ شهوة، سعيا في النّهاية إلى التّحول من الكائن الطّبيعيّ، إلى الكائن النّورانيّ.
ولا يمكن لهذا التّحول في تعريف الإنسان أن يحدث إلّا باسم الضّرورة الّتي لا تقهر، وهي تلك الّتي اصطلحنا على تسميتها بالـ”ما يجب”. كان من الضّروري لكي تنجح الحرب ضدّ الجسد وسلطانه من ابتداع هذا الإله الصّارم، وهكذا، تمّ إقناعنا أنّنا لسنا أجسادنا، وأنّنا نسكنها بشكل مؤقّت في انتظار مغادرتها كما يغادر المستأجر بيتا لا يمتلكه. وشيئا فشيئا، ترسّخت فكرة الازدواجيّة هذه، وأصبحنا إزدواجيين بالمعنى القويّ للكلمة، لا نستطيع إخراس أجسادنا، ولا نحن قادرين على التّصالح معها والإنصات إليها. ووسط هذه الضّغوطات الّتي تتجاذبنا من اليمين ومن الشّمال، أصبحنا نتقن فنّ المراوغة والتّحايل، نتحايل على قيمنا ومبادئنا وهويّتنا، على ما نحن عليه وما نريد أن نكونه، وما يجب أن نكونه…
كانت أجسادنا وما تزال مسرحا لشتّى أنواع الانتهاك، بدءا من تحديد المظهر الّذي يجب أن تبدو عليه، وما يجوز أن يبرز منها وما لا يجوز، وما يجوز لنا أن نحتفي به منها وما لا يجوز، وصولا إلى الضّرب والتّحرش والاغتصاب… كلّ ذلك لأجل السّيطرة عليها وضمان عدم انكشاف مختلف أبعادها، وتقليص قدرتها على الحضور والفعل واللّغة والتّجسد… بالطّبع تحت غطاء حماية “عقولنا” و”أرواحنا”.
يبقى السّؤال الأخير الّذي يكشف عن نفسه، والّذي يستثار أساسا من كلّ ما أدلينا به سالفا:
ما هي الغاية الحقيقيّة الثّاوية وراء كلّ هذه الحرب وهذا التّعتيم على الجسد؟
ليست ذريعة حماية عقولنا وأرواحنا سوى ذلك النّقاب الّذي تختبئ خلفه المخاوف من أن تصبح الذّات الانسانيّة ذاتا مكتفية. فالذّات المكتفية هي في الأصل جسد سوي، جسد حيّ، جسد قادر على ممارسة وظائفه بنشاط، وعلى رأس هذه الوظائف، وظيفة التّفكير.
كلّما تحرّرت أجسادنا من وهم الـ”ما يجب”، كلّما كانت سويّة وصحيّة ومتناغمة مع الطّبيعة. ولكلّ ذلك نتيجة حتميّة بالطّبع هي كالآتي: الإنسان السّوي هو الإنسان المكتفي، أي المتحرّر من أعباء الرّغبة غير المشبعة، ومن كلّ ما يترتّب عن ذلك من كبت وقهر نفسي… هذه الشّروط الطّبيعيّة تؤهّل الذّات لكي تكون ذاتا فاعلة ونشيطة ومستقلّة، فالعقل الحرّ هو الجسد الحرّ، كيان واحد قادر على الفعل، والسّؤال، والنّقد، وتحليل الواقع وفهمه بموضوعيّة، لأنّه ليس سجينا للنّقص والاحتياجات الأساسيّة الّتي تتضارب بداخله وتتجاذبه من كلّ اتّجاه، إلى أن يصبح كلّ همّه البحث عن سبل لتعويض هذا النّقص وإن كان بأمور زائفة ووهميّة ليس في حاجتها أصلا.
لقد صدق القائل أنّ “العقل السّليم في الجسم السّليم”، رغم أنّ هذا القول غالبا ما يتمّ تقليص معناه في دلالة سطحيّة، غير أنّ له دلالة أعمق تعبّر عن الانسجام بين أجسادنا وعقولنا، فهما في نهاية المطاف كيان واحد لا يقبل التّجزئة.
غير أنّ واقع الحال، بمختلف القوى الكبرى الّتي تسعى إلى السّيطرة عليه، كان له دوما رأي آخر. رأي يدرك جيّدا أنّ السّيطرة على عقولنا وتحويلنا إلى كائنات بلهاء، تستهلك وتطيع دون وعي، بحثا فقط عن سبل لإشباع رغباتها الأوليّة الّتي تمّ إسكاتها، هذه السّيطرة لا تتحقّق إلا بتجريدنا من فضائل الإنسان الأوّل، أي بالسّيطرة على أجسادنا.
وبالاستناد إلى معطيات نمط وجودنا وعيشنا، يتّضح أنّ رغبة قويّة في تعطيل قدرتنا على الفعل، كانت ولا تزال تلاحقنا. إذ ليس من مصلحة عالم محكوم بالصّراعات الرّأسماليّة الطّاحنة أن يكون أفراده أحرارا، يكفي أن يتمّ إيهامهم بأنّهم كذلك، وأنّ اختياراتهم في مجملها هي اختيارات نابعة عن إرادة حرّة… بينما ليست هي في الأصل سوى سعي أحمق لتعويض اللاّاكتفاء الجسديّ والعقليّ الّذي تمّ فرضه باسم الفضيلة، والّذي لم يفضي بنا سوى إلى تشويه الذّات الانسانيّة وتحويلها إلى ذات ناقصة ومبتورة الأبعاد. أيّة فضيلة هذه الّتي تحوّل المرء إلى كائن أبله؟!
إضافة تعليق جديد