الدولة المدنية في الخطاب الديني: القرضاوي نموذجاً
الجمل ـ عبد الله علي: تزايدت في الفترة الأخيرة، لاسيما بعد ظهور بوادر ما يسمى "ربيع الثورات العربي"، نبرة التشديد من قبل الخطاب الديني على تبني مبدأ الدولة المدنية، ونسمع من هذا الخطاب يوماً بعد يوم ما يؤكد إصراره على قبول إقامة الدولة المدنية وقناعته بمقتضياتها وإيمانه بضرورتها، وقد توِّجت مساعي هذا الخطاب الديني، أخيراً، بتوقيع وثيقة الأزهر في القاهرة من قبل مختلف ممثلي الأحزاب السياسية، والتي أقرَّت، في أحد بنودها، الاتفاق بين أطراف الوثيقة على إقامة الدولة المدنية.
ولا يخفى على أحد أن الخطاب الديني من خلال تبنيه إقامة الدولة المدنية، يحاول الترويج لنفسه على أنه خطاب عصري يتماشى مع مقتضيات الحياة السياسية، وأنه قادر على الوفاء بوعود الحرية والديمقراطية التي تتطلبها أنظمة الحكم في الدول الحديثة، وذلك في مسعىً منه للإقناع بأنه يستحق أن يمنح الثقة والفرصة للمشاركة في قطاف ثمار ربيع الثورات ومن ثمَّ اعتلاء كرسي الحكم في دول ذلك الربيع، ولا شكَّ أن العامل الأساسي الذي سيؤمن له هذا الوصول ويجعله مقبولاً سواء شعبياً أو دولياً، هو إشاعته الطمأنينة حول رؤيته لطبيعة الدولة التي يريدها وأنها مدنية وليس دينية.
والسؤال الذي لا نجد بدَّاً من طرحه هو: ما مفهوم الدولة المدنية في الخطاب الديني؟ هل يتبنى هذا الخطاب الدولة المدنية وفق المفهوم المتعارف عليه أم يضع له مفهوماً مغايراً؟.
للإجابة عن هذا السؤال سوف نختار الشيخ يوسف القرضاوي كي نبحث في كتبه عن المفهوم الذي يقصده الخطاب الديني عندما يتحدث عن الدولة المدنية. واختيار الشيخ يوسف القرضاوي يقوم على اعتبارات أهمها أن الشيخ القرضاوي يترأس أهم هيئة إسلامية في العالم هي اتحاد علماء المسلمين، وأنه حالياً يعتبر من رجال الدين المتحمسين لربيع الثورات ويمكن لشدة حماسته أن نطلق عليه لقب شيخ المنظرين لهذا الربيع، إضافة إلى اعتباره بمثابة المرشد الروحي لجماعة الإخوان المسلمين في مختلف دول العالم. ولا يخفى على أحد طموح هذه الجماعة لتولي الحكم واعتلاء كرسيه، والجهد الذي تبذله للوصول إلى هذه الغاية، ومن هذا الجهد محاولتها نفي الشكوك الكثيرة التي تحيط بها لجهة الرؤية الحقيقية التي تتبناها حول مبادئ نظام الحكم الذي تتوخى إقامته، وذلك من خلال تأكيدها المستمر والمتكرر، كما قلنا أعلاه، على إيمانها بضرورة إقامة دولة مدنية وليس دينية.
*****
عندما يتحدث الشيخ القرضاوي عن الدولة المدنية فإنه يقصد بشكل واضح وجلي "الدولة الإسلامية" معتبراً أن الدولة الإسلامية ليست دولة دينية وإنما دولة مدنية. يقول القرضاوي في الجزء الثالث من سلسلة "حتمية الحل الاسلامي" والمعنون بـ "الحل الاسلامي وشبهات العلمانيين": ((الخطأ كل الخطأ الظن بأن الدولة التي ندعو إليها دولة دينية إنما "الدولة الاسلامية" دولةٌ مدنية)) وأنه ((فرق كبير بين الدولة الاسلامية أي الدولة التي تقوم على أساس الاسلام وبين الدولة الدينية التي عرفها الغرب النصراني في العصور الوسطى)). وأساس هذا الرأي عند القرضاوي أنه يميز بين ما هو إسلامي وما هو ديني ويرى أن ليس كل ما هو إسلامي هو ديني وأن الاسلام أوسع وأكبر من كلمة الدين.
يهمُّنا مما سبق أن القرضاوي يعبِّر بوضوح عن قناعته بالدولة المدنية، وسوف نتناسى أنه يطابق بينها وبين الدولة الاسلامية، وكذلك سوف نغض النظر عن الفرق الذي أقامه بين ما هو إسلامي وما هو ديني، لكننا نجد من الضروري الإشارة إلى التناقض الفاضح الذي وقع به الشيخ القرضاوي، فمن جهة هو يقول بالدولة المدنية، ويميز بين الدولة الاسلامية وبين الدولة الدينية، لكنه من جهة أخرى يربط بشدة بين الدين والدولة، وقد ورد هذا الربط في الجزء الثاني من السلسلة المشار إليها والمعنون بـ "الحل الاسلامي فريضة وضرورة" وذلك في معرض محاولته الإثبات بأن المجتمع المسلم لا يمكن أن يقوم بدون حكم إسلامي ويبرر ذلك بأن الحكم فريضة من فرائض الدين "وأن التقاء الدين والدولة خصيصة من خصائصه – أي الحكم -"، ومن حقنا أن نتساءل عن كيفية التوفيق بين قوله بالدولة المدنية وبين قوله أن "التقاء الدين والدولة" خصيصة أساسية من خصائص الحكم الاسلامي؟ وكيف يمكن تفسير إدعائه رفض الدولة الدينية رغم أنه يقول بالدمج بين الدين والدولة؟
*****
لننتقل خطوة أخرى في سبيل قراءة فكر القرضاوي حول الدولة المدنية وماهيتها وطبيعة دستورها وقوانينها.
يرى القرضاوي أن دستور الدولة المدنية يجب أن يكون مقتبساً من أحكام الله التي هي أحكام الاسلام ويقول في هذا الشأن، بعد أن يتحدث عن اختيار الحاكم والبيعة له ومسؤوليته أمام الأمة، «الحاكم في الاسلام مقيد غير مطلق، فهناك شريعة تحكمه وأحكام تقيده، وهي أحكام لم يضعها هو ولا حزبه أو حاشيته، بل وضعها له ولغيره "رب الناس، ملك الناس، إله الناس" ولا يستطيع هو ولا غيره من الناس أن يلغوا هذا الأحكام أو يجمدوها، فلا ملك ولا رئيس ولا برلمان ولا حكومة ولا مجلس ثورة ولا أي قوة في الأرض تملك أن تغير من أحكام الله الثابتة شيئاً».
أما بالنسبة لتشريع القوانين وهو ما يسميه القرضاوي "الحاكمية التشريعية" فإنه يرى أن هذه الحاكمية هي لله وحده وليست لأحد من خلقه، إلا أنه يبقى للبشر قدر من التشريع أذن به الله. والتشريع غير المأذون به حسب القرضاوي هو التشريع الديني المحض أي المتعلق بالعبادات وبالحلال والحرام، وكذلك التشريع الذي "يصادم النصوص الصحيحة الصريحة" فلا يجوز تشريع القوانين «التي تقر المنكرات أو تشيع الفواحش أو تلغي العقوبات اللازمة أو تتعدى حدود الله المعلومة». أما فيما عدا ذلك فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم، ويستحضر القرضاوي كأمثلة على ما يجوز التشريع به قانون المرور وقانون الطيران وقانون الزراعة وقانون الصحة أو "غير ذلك مما يدخل في باب السياسة الشرعية وهو واسع جداً" بحسب قوله.
بعبارة أخرى فإن الشيخ القرضاوي يؤمن بحقيقة ما سماه "حتمية الحل الاسلامي" ويرى أن أهم شرط من شروط هذا الحل هو إقامة الدولة الاسلامية التي تكون مهمتها الأساسية إقامة المجتمع المسلم المنشود، مؤكداً أن إقامة هذا المجتمع لا يمكن إلا في حال "التقاء الدين والدولة" باعتبار أن الحكم هو فريضة من فرائض الدين، وأن دستور هذه الدولة يجب أن يكون مقتبساً من أحكام الله، وقوانينها تكون نسخة طبق الأصل عن الشريعة الاسلامية إلا ما لم يرد نص فيه حيث أذن الله للبشر بسن التشريعات المتعلقة به لتنظيمه وضبطه، وصولاً إلى «قيادة المجتمع – بالتربية والتثقيف والتشريع- نحو الاسلام الحق: إسلام الفكر وإسلام النفس وإسلام السلوك».
*****
هذه هي أهم سمات الدولة المدنية الموعودة كما يتبناها الخطاب الديني المعاصر، ونأمل أن نكون قد نجحنا في رسم صورة واضحة لهذه الدولة كما تحدث عنها الشيخ القرضاوي وكما يطمح إلى إقامتها، أما بالنسبة لمدى التوافق بين رؤية الخطاب الديني للدولة المدنية وبين المفهوم الحقيقي للدولة المدنية كما هو متعارف عليه فإننا نمتنع عن التعليق عليه لسبب واحد هو أننا نعتقد أنه لا يحتاج إلى أي تعليق.
التعليقات
من يهن!!
إضافة تعليق جديد