الخلع والعباءات في التاريخ
الخلعة (بكسر الخاء) ما يخلع على الانسان اي ما يعطيه غيره من الثياب منحة. يقال ألبسه الخلعة. قال الشاعر:
أَمُبشِّري بقدوم من أحببته
ولك البشارة بالمسرة والهنا
ما كان أسمحني عليك بخلعة
لو كان عندي حلة غير الضنى
والبردة كساء مخطط تلبسه العرب فوق الثياب. هجا كعب بن زهير النبي عليه السلام ثم جاءه مستأمناً وقد أسلم وأنشد لاميته المشهورة التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يجز مكبول
فعفا عنه النبي وخلع عليه بردته.
وفي التقاليد العربية نماذج من التكريم بمنح الثياب. فالنعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يمنح حلة للأكرام بين الناس. وقد انعم على احد أتباعه بقطيفة حمراء من حلل الملوك سرقت منه أثناء الطريق بعد قتله. وكان عرضها للبيع في سوق عكاظ، سببا في اكتشاف امر السرقة والقتل.
وفي قصص العرب أن اعرابياً جاء الى علي بن ابي طالب رضي الله عنه فقال له: يا امير المؤمنين ان لي إليك حاجة رفعتها الى الله قبل ان ارفعها اليك فإن انت قضيتها حمدته الله تعالى وشكرتك، وإن أنت لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك. فقال له علي: خطها على اراض، فاني ارى الضر عليك. فكتب الأعرابي: إني فقير. فقال الإمام كرم الله وجهه: يا قنبر (مولى علي رضي الله عنه) اكسه حلّتي. فلما أخذها مثل بين يديه وقال:
كسوتني حلة تبلى محاسنها
فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
ايه ابا حسن قد نلت مكرمة
ولست تبغي بما قدمته بدلا
ان الثناء ليحيي ذكر صاحبه
كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في عرف بدأت به
كل امرىء سوف يجزى بالذي فعلا
وكان من تقليد الدولة في العصور الوسطى ان تكسو موظفيها فتقدم لهم الكسوة أو عوضاً نقدياً منها يسمى دراهم الكسوة، اضافة الى ذلك كانت الدولة تقدم ما كان يسمى التشاريف جمع تشريف او الخلع السلطانية، وكانت تقدم عادة عند تولية السلطان فيمنحها لأرباب السلطنة. كما كان السلطان يوزعها في الأعياد والمناسبات المختلفة والى ضيوف الدولة.
وللتشاريف اماكن منها اذا ولي أمير او صاحب منصب وظيفة بأنه يلبس تشريفاً يناسب ولايته. او اذا زار أمير وزيراً.
وفي العصر الحديث كان الولاة ينعمون على المشايخ وكبار الزوار بخلعة. ذكر لحد خاطر ان الامراء والمشايخ من الإقطاعيين في لبنان كانوا يحتفظون بعباءة مزركشة بالقصب يهدونها بمثابة "خلعة" الى من يتزوج من خاصتهم. فيلبسها العريس مفاخراً، حتى إذا انتهى العرس أعادها مرفقة بهدية مما عنده، فيتحفه سيده بمبلغ من المال فكاكاً لها، ويحفظها عنده ليهديها في ما بعد الى غيره من أتباعه.
روى ابرهيم العورة انه في عام 1815م زار الأمير بشير الشهابي الثاني والي عكا الوزير سليمان باشا لتعزيته بوفاة وكيل أعماله، قال: فلما وصل الأمير الى باب الوالي قدم الأخير الى قرب الباب، فحالاً سجد الامير على أقدام الوزير ليقبلها، فمنعه فقبل الامير أذياله من قبالة الأرض. وانهضه الوزير واستضافه وألبسه خلعة فاخرة من سمور (نوع من القماش ينسب الى مدينة سرقطة الاندلسية) وكانت افخر من خلعة الحكم السنوية المعتادة.
واذا كان الشيء بالشيء يذكر فعندما قدم الأمير فيصل الأول الى بيروت 1919م عائداً من باريس بعد ان حضر مؤتمر الصلح، استقبله الشعب بحماسبة بالغة وكان في طليعة احد الوفود الخوري نعمة الله ملكي فالقى قصيدة بين يدي الامير استشهد فيها بقول الشاعر:
للبس عباءة وتقر عيني
أحب اليّ من لبس الشفوف
أعجب الأمير بالقصيدة وخلع على الكاهن عباءته. ويذكر انه بعد تتويج الأمير على عرش العراق بعث نعمة الله اليه يطلب منه براءة تثبت ان العباءة هي عباءته الخاصة فلم يتوانَ الأمير عن إرسال البراءة.
وبعد وفاة نعمة الله آلت العباءة الى نجله، وبلغ نبأ وجودها عنده الى سجيع الأسمر والياس سلهب فابتاعاها بمبلغ جسيم وتسلما البراءة وقررا إهداءها الى المتحف الخاص الذي أنشىء في بغداد لآثار الأمير.
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد