14-12-2020
التاريخ العربي في سورية
محمد قجة:
تدور اليوم تساؤلات حول مفهوم تسمية "سورية " بأصولها التاريخية وحدودها الجغرافية وتركيبها الديموغرافي ووزنها الحضاري ...
وتركز كثير من هذه التساؤلات على الوجود العربي فتعتبر العرب حفنة من البدو جاؤوا من صحراء نجد على الجمال والخيول ، وكأن معاصريهم من الأمم الأخرى كانوا يستخدمون الدبابات والطائرات . وهؤلاء البدو يجب أن يعودوا من حيث أقبلوا لأنهم دخلاء في هذه البلاد ، وكأنهم ليسوا جزءاً من التركيب التاريخي والبشري لهذه البلاد منذ آلاف السنين ، وكأن هذه البلاد لم تكن واقعة تحت الاحتلال الاوربي البيزنطي الذي يعامل ابناء البلاد من سريان وعرب كمواطنين من الدرجة الثانية والثالثة ، على الرغم من ان الوجود البيزطي لم يكن يشكل إلا اقل من 5% بشريا ... ويشارك بعض أبناء البلاد في هذه المزاعم عن قصد أو غير قصد . رغم إدراكنا للواقع العربي المهترئ المتردي في أكثر الدول العربية ، والذي تجاوز كل حدود المنطق والمعقول في انهياره وتبعيته .
وسوف نتحدث عن هذه التساؤلات بمنهجية علمية بعيدة عن الشوفينية والعاطفة القومية :
1 - في الدلالة التاريخية والسياسية للتسمية... وذلك على ثلاثة مستويات :
ا - سورية بحدودها السياسية الحالية التي رسمتها اتفاقية "سايكس بيكو " عام 1916 . بمساحة 185000 كم2 ... وسكانها 24 مليونا ( الخارطة الأولى )
ب - سورية الطبيعية ... بلاد الشام التاريخية بحدود طبيعية ومساحة تقترب من 350000 كم2 وسكان بعدد 45 مليونا(الخارطة الثانية )
ج - سورية الهلال الخصيب بحدود طبيعية : جبال زغروس شرقا وجبال طوروس شمالا والبحر المتوسط غربا وخليج السويس جنوبا مع الصحراء العربية بمساحة تتجاوز 800000 كم2 وسكان يتجاوز عددهم 80 مليونا . بما في ذلك سيناء وعربستان ( الخارطة الثالثة )
2 - تشكل هذه المنطقة قلب العالم القديم بحضاراته وبداية تشكل تجمعاته البشرية : ( تل القرامل 12000 ق . م بجانب حلب . والمريبط وتوتول وبقرص على الفرات .. وأريحا ودمشق وحوض دجلة والعاصي .. )
وعرفت أكثر من ثلاثين حضارة أبرزها السومريون والأكاديون والكنعانيون والعموريون في بابل وماري ويمحاض وقطنة. والفينيقيون والحثيون والميتانيون والآراميون والآشوريون والكلدان والفرس و الإغريق والرومان والبيزنطيون والعرب المسلمون .
كما تشكل الممر التاريخي والجغرافي والتجاري بين قارات العالم القديم .
3 - في التسمية : هناك عدة نظريات في أصل تسمية سورية ..ولعل أرجحها تحول الكلمة من "آشورية " وهي الكلمة التي أطلقها الإغريق على شمال بلاد الشام ... وتحول حرف شين إلى حرف سين ... ثم أخذت التسمية دلالتها التاريخية والجغرافية التي تحدثنا عنها . "آسور...آسوريا ...آسيريا ..Assyria "
4 - في التركيب الديموغرافي: وبما أننا أمام منطقة شكلت فجر التاريخ وملتقى الحضارات فمن الطبيعي أن يكون النسيج البشري ممثلا لكل تلك المراحل ... وعندما حدثت الفتوحات العربية عام 636 م كان التركيب السكاني لبلاد الشام والعراق على النحو التالي :
ا - الآراميون الذين حملوا اسم السريان بعد اعتناقهم المسيحية في القرن الثالث م .
ب - العرب الذين ورد ذكرهم منذ الألف الأول ق . م في مملكة جندب العربية شمال العراق والتي قضى عليها الآشوريون . ومملكة قيدار جنوب الفرات في بلاد الشام ، ومملكة الحضر ومملكة ميسان في العراق ، والملك أبجر في الرها وهو الذي راسل السيد المسيح .. والملك عزيز في أنطاكية وصولا إلى ممالك تدمر والأنباط والغساسنة والمناذرة .وقبائل تنوخ وبكر وتغلب ومضر وسواها .
ج - الوجود البشري السياسي البيزنطي في بلاد الشام والفارسي في العراق ... وكل منهما قوة احتلال أجنبي .
5 - حينما دخل العرب المسلمون كانت الامبراطوريتان البيزنطية والفارسية قد أنهكتهما الحروب والصراعات المديدة . ... وكان العرب قوة فتية لم يهدموا القرى و
المدن ولم يغيروا أسماءها وتركوا للسكان حرية عباداتهم... وهذا ما سهل الحركة التاريخية لهم وانتشارهم السريع على القارات الثلاث . ولدينا في جمعية العاديات محاضرة مسجلة للصديق المطران يوحنا ابراهيم مطران حلب للسريان الارثوذكس ( نسأل الله له السلامة ) ، يقول فيها : إن السريان رحبوا " بالفتح العربي المبين " لأنه خلصهم من الاستبداد البيزنطي قوميا ومذهبيا
6 - سورية لم تكن في يوم من الأيام جزيرة منعزلة منقطعة عن محيطها وتاريخها الطويل ودورها المركزي في النطاق الإقليمي ، وفي حركة التاريخ البشري على كافة المستويات ، ومنذ التاريخ القديم في الألف الرابع قبل الميلاد كانت سورية بحجمها الكبير على صلة بالممالك في مصر الفرعونية وشبه جزيرة العرب جنوبا ، ومناطق الأناضول شمالا والوجود الحثي فيها . وحضارات الشرق الميدية والفارسية والهندية ، والامتداد الفينيقي غربا عبر البحر المتوسط وبناء قرطاجة والوصول الى اسبانيا وجنوب بريطانيا .
واستمرت تلك الصلات عبر التاريخ الطويل الذي عرفته سورية : السومريون ، الأكاديون ، العموريون ، الحثيون ، فراعنة مصر ، الآراميون ، الآشوريون ، الكلدان ، الفرس ، الوجود الاوربي : اغريقي وروماني وبيزنطي . العرب المسلمون .
ولذلك لايمكن دراسة تاريخ سورية في ضوء حدود رسمتها اتفاقية " سايكس - بيكو " والانغلاق الضيق والرؤية الشوفينية التي تعزل سورية عن نطاقها الجغرافي والتاريخي والحضاري والثقافي واللغوي والاجتماعي .
7 - وسورية اليوم تواجه أخطار التفتت بدعوى إثنية أو مذهبية .. وذلك بدلا من السعي إلى سورية الهلال الخصيب الكبير ...وهو حلم استراتيجي حيوي أمامه الخطوط الحمراء دوليا وأقليميا وحتى عربيا .... ولو تحقق لكانت دولته أقوى دولة في الإقليم وأغناها وأرقاها بشريا وعلميا وثقافيا . مع وجود الثروات النفطية والمائية والاقتصادية زراعة وصناعة وتجارة وعنصرا بشريا نشيطا .
8 - إنني كمواطن في هذه البلاد أعتز بانتمائي لسورية الكبرى بكل مكوناتها التاريخية والحضارية عبر آلاف السنين .. كما أعتز بانتمائي التاريخي والحضاري إلى الثقافة العربية واللغة العربية التي هي اللغة الوطنية لكل أبناء البلاد بغض النظر عن التمايز العرقي والديني ... واحتفاظ كل من المكونات الديموغرافية بلغتها الأم التي يتكلمها ابناؤها .
وطننا لجميع أبنائه تحت رأية الدستور والقانون بلا فروق ولا استثناءات ولا مزايا خاصة لأحد .... وطن يفخر بتاريخه عبر آلاف السنين ويفخر بتكوينه البشري الثري المتفاهم السمح .
إضافة تعليق جديد