الإيروتيكيّة.. بين تعزيز النسق الثقافي السائد وتهديده
المُسميات بأسمائها، والأفعال بأوصافها، لا مواربة، ولا تمويه: (فانكحوا ما طابَ لكم من النساء...) (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنَّ ويحفظنَ فروجهنّ) غير أن هنالك من يحاولُ اليوم درء ما يراه مُخجلاً في أقوال النص المقدّس، ومن رأى في الماضي أيضاً، حتى بات في اللغة العربيّة ما يربو على عشرات الأسماء للعضو الجنسي الذكري، ومثلها للأنثوي، وبات ما يعني نكاحاً، أو ما تمكن الإحالة إليه من أفعال؛ يمتدّ في تضميناته وتلميحاته ليشمل كل فعل تقريباً.
إنه الفصام ذاته الذي يعيشه الإنسان العربي في كل ما يحياه، المستور والمكشوف، الظاهر والباطن، المُعلن والمسكوت عنه، الممنوع والمسموح به. ما يجعل السؤال عما يبدو حريّة في التعبير، وتساهلاً في تناول المحظورات والخوض فيها، سؤالاً ينطوي، بأيّة صياغة شاءها، على إدانة لحاضر، وإعلاء من شأن ماض.
لكن هل كان الماضي متسامحاً حقاً؟ سؤال يستدعي آخر. هل شكّلت الكتابة الأيروتيكيّة في التاريخ العربي الإسلامي تهديداً للنسق الثقافي السائد، كي يبدو وجودها نتيجة تسامح، وليس لسبب، أو أسباب أخرى؟ لا سيما إذا عرفنا أن ذلك الماضي قد أتاح عشرات، إن لم نقل مئات الكتب التي اختصّت بالعمليّة الجنسية وفنونها.
الجسد الثقافي، والجسد البيولوجي الغريزي، كلاهما يشكّل حالة لا تمثّل خطراً على أيّة ترسيمة ثقافيّة مستقرّة. فالجسد الثقافي هو الجسد الذي يتكوّن في البلاغة اللغوية ويصدرُ عنها، وغالباً هو جسد موارب ومخاتل، لا حول له ولا قوّة. والجسد البيولوجي هو جسد منبوذ يُواجَه حضوره بحاجز مصفوفات العيب التي تتحصّن بها الثقافة السائدة. وهو الجسد الذي من أجله على الأرجح، استُحدثت تاريخياً قوائم لا تنتهي من العقوبات. أي أنه جسد من السهولة بمكان التخلص منه والقضاء عليه. والثقافة الأيروتيكيّة في التاريخ العربي الإسلامي لم تتعد هذين المفهومين للجسد، فيما اتخذت الكتابة الايروتيكيّة - في الغالب الأعم - من الإثارة الجنسيّة، ورفع طاقة الجسد في الفعل الجنسي، موضوعها الأثير.
هذه الكتابة لم تتناول جسداً بقدر ما تناولت آلة وميكانيكاً. وهذا ما تعزّزه وتؤكده مباشرة العناوين ووضوحها الإعلاني في الكثير من تلك الكتب: (نواضر الأيك في فنون النيك)، (الإفصاح في أسماء النكاح)، (الوشاح في فوائد النكاح) للسيوطي، كما تظهره المشهديّة الوصفيّة (البورنو) التي تحتشد بها الصفحات؛ ولهذا يُختصر الجسد الأنثوي فيها إلى موضوع رغبة وإمتاع بطريقة لا تتناقض أبدأً مع المبدأ الشرعي: (نساؤكم حرث لكم فآتوا حرثكم أنى شئتم).
حبس الجسد
لقد حيّدت الكتابات، والمؤلفات، الايروتكيّة الجسد عن محيطه الاجتماعي، وقيّدته بفعله الوحيد الذي يتم عامة في الخفاء. وبهذا لم تكن كتابة خارج السياق، ولم يكن لها ما يجعلها انزياحاً، أو خروجاً على نسق. بل كانت على الدوام نوعاً من الإضافة التي لا تثير انتباه إلا من كُتبت له؛ فالكتب التي وصلت إلينا، أو تلك التي ذُكرت في الفهارس، أو عبر الإشارات، لا يمكننا التكهن بمدى شعبيتها وانتشارها، وبالتالي بمدى تداولها وتأثيرها في زمنها؛ كما أننا لا ندرك تماماً إن كانت قد كُتبت بتكليف من أمراء وأصحاب نفوذ، وبقيت حبيسة دوائرهم، لأن القليل من تلك الكتب لمّح إلى شيء كهذا.
ومما علينا عدم الاستهانة به، ونحن بصدد هذه الكتابة، هو الاتساق الاجتماعي الذي كان لها، إذ إنها حدثت في مناخ من العبوديّة والاتجار بالبشر، وخاصة الجواري والإماء، وانتشار الحانات وبيوت المتعة، ناهيك عما كان يجري خلف أسوار قصور الأمراء والسلاطين وأصحاب النفوذ. وبالتالي علينا ألا نستغرب أن بعضها لا يختلف كثيراً عن أفلام (البورنوغرافيا) التي يكون مناخ حدثها هو أسواق الجواري حيث يتم فحص جسد الجارية وأعضاءها على مرأى من كل موجود، كما يتم فحص البهائم ومعاينتها في سوق المواشي؛ إذ إن كلّ جسد المرأة بضاعة قابلة للفحص والتمحيص والمعاينة، دون اعتبار لأيّة قيمة أخرى.
وعليه، فإن كان هنالك من خروج وتمرد على الآداب، يمكن أن يُنسب لهذه الكتابة، فلم يكن أكثر من خروج على الآداب (العامة) والذي يمكن التغاضي عنه، إن حدث استنكار، أو إدانة، بإشارة من أولي الأمر، خاصّة أنه ليس خروجاً على آداب العبادة والفقه. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى مصيرين مُختلفين نتجا من الخروج والمروق على الآداب هما مصير الحلاج ومصير أبو النواس؛ وأهمية الإشارة تأتي من إظهارها لصلابة وتماسك وقسوة الأنساق والمنظومات الثقافيّة السائدة والمهيمنة تجاه الانزياحات الحاصلة في النسق، والتي لا تستطيع احتواءها وتحويلها إلى عنصر مكوّن يعزّز ويحمي. وهذا ما يضعنا على عتبة الإجابة عن سؤال الحاضر الثقافي حول تمنّعه وتصلّبه إزاء الثقافة الايروتيكيّة، ومحاربته لها على أنها رِجس وخروج عن الشرع.
ترسيمة حداثية
لقد انتظمت الإيروتيكيّة الحديثة في الخطاب الثقافي العربي ضمن ترسيمة ثقافيّة حداثية؛ استندت في جوهرها إلى المُنجز الحداثي الغربي الذي حققته الحركة النسوية، وبدأ صدى هذه الحركة يتردّد في مجتمعاتنا مشكلاً جزءاً مهمّا في خطاب الحداثة العربية، على استحياء في البداية، وبنبرة عالية في ما بعد؛ إذ بدأ الصوت النسوي بالارتفاع محاولاً صياغة مفهوم المرأة الخاص عن جسدها ككيان، لا يتعرّف بالنسب، والإحالة، والقياس. وبالتالي بدأت الايروتيكية العربية الحديثة مرفوضة ومنبوذة، ليس لنوعها وتأثيرها فحسب، بل لأنها مكوّن في ترسيمة ثقافية مرفوضة هي الأخرى، ومُستهجنة كُليّاً. يضافُ إلى هذا بأنها، لأوّل مرّة في تاريخ الثقافة العربية الإسلاميّة، قد بدأت كمحاولة لإخراج الجسد من وظيفته الاجتماعيّة التعبديّة (العمل أيضاً عبادة!!) إلى دائرة الرغبة الفردية والشأن الشخصي؛ وهذا يعني إعلان الرفض للانتظام الاجتماعي، ومحاولة فرط العقد الذي يجعل من الأجساد جسداً كليّا واحداً لا يمتلك أصحابها من أمرها شيئاً.
ينسحب هذا بالتساوق على البنية الثقافية التي بدأت ثقافة الجسد، الطارئة والغريبة، بتهديد تماسكها وسيادتها. فالجسد الفردي الطامح إلى تأكيد ذاته بدلالة إمكانياته اللامحدودة، لا بدلالة الجسد الجمعي/الاجتماعي، والذي ترافق مع سؤال الهوية، ومكان الأنا الفردية في حيزها الوجودي، قد أعاد، عند رافضيه بالطبع، ثنائية الرجس والطهارة، الحلال والحرام، المروق والطاعة، وغيرها الكثير من الثنائيات التي تؤشر إلى استشعار النسق السائد للخطورة المتأتّية عن هذا الجديد، وتظهر في الوقت عينه أن الخوف ليس مما يُسمى الفحش: (الايروتيك أو البورنو) بحد ذاتهما إنما من خروج الجسد بهما إلى أبعد من محيط دائرة الفعل الميكانيكي الغريزي الذي تمكن السيطرة عليه بأي من أشكال العنف.
وهنا لا بدّ من الانتباه إلى أن مساءلة الايروتيكيّة الجديدة لم تكن إبداعيّة، أو قانونيّة، إنما شرعيّة أخلاقية بامتياز. وذلك لأن محاربتها بغير هذه الطريقة لن تجدي نفعاً، بسبب من انعدام القدرة على المجابهة بالنوع ذاته من الأدوات. ولكنّ هذه المساءلة لا بد أن تحيل تلقائياً إلى أن ثقافة (الايروتيك) و(البورنو) في الثقافة العربية الإسلاميّة قد أنتجها وأضافها شيوخ وفقهاء وقضاة توفروا على قدر لا يستهان به من العلوم الفقهيّة والشرعيّة والوضعيّة. ولهذا لم توصف أعمالهم بُمسببات الانحلال (الانحلال وليس غيره من النعوت حيث يقابله التماسك والصلابة) التي توصف بها أعمال حديثة أكثر رقيّا فنياً وأدبياً، وذلك لأن هذه الأخيرة جاءت من خارج المنظومة والنسق ليس إلا!!
ياسر اسكيف
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد