اقتصاديات القمامة .. عندما تحرك أيادي (النقابين) (عجلة) الاقتصاد الوطني
الحصول على المال شعارهم، مبدؤهم في العمل: (الحاوية) أمامكم والصندوق من خلفكم، والدراجة من تحتكم، ومن الشرطة المفر؟! هذا هو حال جامعي القمامة في دمشق وريفها أو ما يعرف (بالنقابين) التي أخذت تزدهر وتتحول (المهنة) لمن لا عمل له ولتشكيل مصدر (دخل) لا يستهان به لشريحة واسعة من المجتمع السوري ومن مختلف الفئات العمرية (أطفال، شباب، كهول) فما يجمعه (النقاب) من مخلفات منزلية (بلاستيك، خبز، حديد، نحاس، كرتون، زجاج) يشكل نقطة بداية لسلسلة عمليات اقتصادية يقبع خلفها مجموعة من الوسطاء، والشركاء تخضع خلالها (السلعة) لعمليات (تدوير) يعاد طرحها مجدداً في الأسواق بأسعار منافسة؟! إنه نمط اقتصادي أفرزته الظروف الاقتصادية والاجتماعية لشريحة واسعة من أجل تحصيل لقمة العيش وليكرس ما يعرف (باقتصاد الظل).
(انتحال صفة)
صعوبات عدة واجهتنا لتسليط الضوء على هذا الموضوع، انتحلنا خلالها صفات (عاطل عن العمل، موظف صحة، مواطن عادي) ولعل أقلها فعالية تقديم نفسي (كصحفي) وذلك لحساسية الموضوع المثار كونه يجرح مشاعر البعض (ويفضح البعض الآخر).
أولى (المطبات) كانت أمنية عندما استوقفت شاباً يركب دراجة هوائية وخلفه ما التقطه من نفايات مختلفة وذلك بالقرب من دوار كفر سوسة، وبدأت أسأل الشاب (ن/ع) /20/ عاماً: منذ متى وأنت تمارس هذا العمل، ولماذا لم تجد عملاً آخر، وهل من مردود مادي يوازي هذا الجهد؟
فأجاب: أجمع القمامة منذ حوالي /5/ سنوات.. ماذا أفعل؟ بحثت عن عمل في الدولة فلم أجد علماً أنني أحمل الثانوية الصناعية، وكما تراني أركب الدراجة وأبحث في الحاويات (علي أجد شيئاً للبيع، علب منظفات فارغة، علب كولا، بقايا خبز... أي شيء يباع) فأبي عسكري متقاعد ولي /9/ أخوة شباب متزوجين لا يتعرفون على مصروف البيت... لذلك علي أن أعمل أي شيء كي أصرف على أبي.. وأمي وشقيقتي التي تدرس في الجامعة، وما تبقى أصرفه على نفسي، متوسط دخلي اليومي /300/ ل.س، وقبل أن أضيف اقترب مني رجل الأمن طالباً معرفة هويتي وسبب حواري الطويل مع الشاب اضطررت عندها إبراز هويتي الصحفية وعندما شرحت له أنني أبحث عن واقع عمل جامعي القمامة وشرح معاناتهم... قدم لي اعتذاره.. في الوقت الذي أطلق الشاب العنان لدراجته راجياً عدم ذكر اسمه في الموضوع. عندها أدركت واجب توخي الحذر عند اختيار الأمكنة والأشخاص.
في الصباح الباكر عند إحدى (الحاويات) في منطقة البرامكة أسند أبو طلال دراجته الهوائية على إحدى قدميه، بينما أخذت يده اليمنى تعبث وتقلّب بالمحتويات وقد علّق مجموعة من أكياس النايلون الأبيض على جانبي الدراجة وهي شبه فارغة بادرته قائلاً: ألا تخشى البرد، ولماذا هذا الوقت بالذات؟ فقال: (يلي إلو عمر ما بتقتلو شدة!! شو بدك يانا نشحد أحسن... أنا رجل متقاعد راتبي ما بيكفي ثمن خبز وسمنة وزيت... فوق هذا عيلة كبيرة وولاد بالمدارس خليها على الله، لقمة العيش صعبة والحياة بدها ركض) واقترب أحدهم يقال له أبو أحمد قائلاً: (أكيد أنت صحفي... يا أخي جاي تكتب عن هالمعترين... روح كتوب عن الحرامية الكبار يلي سرقوا خيرات البلد).
أكثر القصص مأساوية رواها الشاب /س.ك/ /35/ عاماً يقطن في منطقة القابون: كنت أعمل نجار بيتون لأكثر من /10/ سنوات استطعت جمع مال كاف للزواج وشراء منزل (غرفتين ومنافع) في حي تشرين وفي إحدى المرات وقعت عن (السقالة) ما تسبب في كسر ظهري ويدي اليمنى، وأدى إلى تركيب صفائح معدنية في الظهر، فلم أعد أستطيع العمل في مهنتي... مما دفعني للبحث عن عمل أقل جهداً ويؤمن لي مصروفاً لأطفالي الثلاثة فاضطررت للعمل في جمع ما يرميه الناس في الحاويات من بلاستيك وغيرها وبيعه لأحد المتعاملين بهذه المواد بمعدل /4/ ل.س للكغ من الخبز، و/6/ ل.س للكغ البلاستيك المشكل... وأضاف: أعمل بهذه المهنة صباح مساء وفي مختلف الأوقات والرزق على الله... المهم (نطالع حق الخبزات ومونة الشتاء).
(أطفال نقابون)
ثلاثة أطفال يحملون على ظهورهم أكياس نايلون تغص بعلب المنظفات الفارغة وصناديق خضار وفواكه مكسرة وثياب (مهلهلة) يرتدونها.. يعبرون شارعاً وسط (حي تشرين) بالقابون باتجاه الحاوية بدت أعلى من أن تطالها أيديهم الغضة الناعمة... مشهد أكثر إيلاماً وأثراً في النفس لكن على ما يبدو (الغاية تبرر الوسيلة).
(عداوة كار)
ويروي أبو عماد /55/ عاماً: يبدو أن (مهنة) جمع القمامة وبيعها (صنعة) من لا صنعة له في ظل هذا الواقع الاقتصادي السيء... وقلة فرص العمل.. إذ يمكن أن ترى الأطفال والشباب والرجال يجوبون الشوارع والحارات وينقبون في (الحاويات) بحثاً عن كل ما يباع على رأي المثل: (كل فولة... وإلها كيال)، وأضاف: حتى عمال البلدية أصبحوا يسابقوننا على (الرزقة) ولكل منهم (مقاطعته) ومنطقته التي (يترزق) من خلالها.. وبالتالي شكلوا منافساً كبيراً لنا.
(حاويات 5 نجوم)
ينتشر هذا النمط من الحاويات في المناطق الراقية بدمشق (التجارة، القصور، المالكي، أبو رمانة، الشعلان) فالقاطنون في هذه المناطق من أصحاب المال والجاه والنفوذ، ومن الطبيعي أن تحمل مخلفات منازلهم ما يثير فضول النقابين ويجعلهم يسارعون إلى عمليات (الغزو) والنبش والتقليب، فكثيراً ما يعثر مرتادو هذه الحاويات على اللقى الثمينة والأدوات الكهربائية والألعاب (نص عمر) حسبما ذكر لنا أبو منير /60/ عاماً وأضاف:
في إحدى المرات بينما كنت أنقب في منطقة (القصور) عثرت على خاتم ذهبي... وسيارة ريمونت كونترول حمراء مقطوع سلكها فقط... شعرت بفرحة غامرة.. وعدت مسرعاً إلى البيت.
(سوق نشطة)
أما أبو ممدوح /40/ عاماً ويعمل في المهنة منذ /5/ سنوات قال: (أغلب الأدوات... والأجهزة الكهربائية والثياب التي نجمعها من الحاويات نبيعها بالجملة إلى أشخاص معينين في سوق (الحرمية) في شارع الثورة أو ما يسمى بسوق (الجمعة) وفي منطقة (الكباس) ولكل سلعة حسب جودتها وصلاحيتها للعمل سعر، وغالباً ما نتعرض لمضايقات من قبل شرطة السياحة والمحافظة بحجة أن عملنا يسيء إلى السياحة والذوق العام وسمعة البلد.. وتناسوا أن للمواطن الفقير في هذا البلد الحق في العيش الكريم.. ليست هذه (الصنعة) رغم عدم احترام الناس لها أفضل من التسول أو السرقة.
(مراكز بيع وشراء)
تنتشر في دمشق وريفها العديد من مراكز بيع وشراء ما يجمعه النقابون، وعن ذلك يقول أبو فراس /50/ عاماً والذي يملك مركز بيع في (حي تشرين) بالقابون: أشتري كل ما يجمعه شبان وأطفال الحي من مخلفات البلاستيك (بيدونات بلاستيك تالفة، صناديق خضار، وقطع النحاس والحديد) ولكل نوع من هذه الأنواع سعره الخاص مثلاً أشتري كغ البلاستيك بـ /6/ ل.س وكغ نحاس بـ /30/ ل.س والزجاج بـ /4/ ل.س للكغ الواحد، والكرتون بـ /5/ ل.س للكغ، والحديد بـ /2/، والخبز اليابس بـ /5/ ل.س، وأضاف: هناك العديد من مراكز بيع وشراء الجملة في هذه المنطقة حوالي /5/ مراكز ونحن بدورنا نبيع كل ما نجمعه شهرياً إلى متعهدين يقومون بفرز كل نوع على حدة وطحنه من خلال (فرامات) خاصة ليحول إلى حبيبات بلاستيكية ذات ألوان مختلفة، والكرتون يعاد عجنه ليتحول مجدداً إلى كرتون للبيض، وقطع الحديد ترسل إلى معامل صهر الحديد، وكذلك النحاس والألمنيوم كي تحول إلى (إكسسوارات) للعديد من الأواني ومدافئ الوقود، أما الخبز فيتحول إلى علف للحيوانات.
(حلة جديدة)
أكثر الخطوات صعوبة ومشقة هي البحث عن المعامل و(الورشات) الخاصة المتعاملة مع مراكز بيع الجملة وتقوم بتصنيع المواد البلاستيكية و(تدويرها) وبعد البحث والتقصي التقينا بالشاب أحمد نهرو (أبو حمزة) الذي قال: تنتشر هذه المعامل والورش في ريف دمشق ودوما، زملكا، عربين، والسيدة زينب، والحجر الأسود، وقد عملت سابقاً في إحدى هذه الورش حيث كانت تأتينا المواد البلاستيكية من قبل تجار، معبأة بأكياس بلاستيكية ونقوم بصهرها فتتحول إلى ألعاب أطفال، سفل أحذية، باستخدام آلات خاصة (حقن، نفخ) ثم نقوم بتعبئة هذه المنتجات ضمن أكياس وتغلف بشكل أنيق لتباع في أسواق دمشق والمحافظات الأخرى... وأشار إلى وجود منتجات أخرى مثل الأدوات المنزلية بأنواعها.
ويمكن القول أخيراً: إن هذا النمط من الاقتصاد لا يقتصر على محافظة دمشق وريفها بل يكاد ينسحب على محافظات عدة في ظل غياب فرص العمل الحقيقية، التي تحفظ للمواطن كرامته وتؤمن له لقمة العيش الكريم، وأن (عجلة) النقاب وما خلفها تسهم بشكل أو بآخر بحل جزء من أزمة البطالة وتدفع (بعجلة) الاقتصاد الوطني إلى الأمام.
عن مجلة المال
بسام المصطفى
إضافة تعليق جديد