"أسماء للنسيان" لعمر قدور
أن ينتقل شاعر من كتابة قصيدة النثر، بعد نشر مجموعتين شعريتين، إلى كتابة الرواية، فهذا ليس بمستبعد، رغم أن الظاهرة الدارجة هي الانتقال من القصة القصيرة إلى الرواية، بما أن القرابة السردية قد تجمع الاثنتين نوعاً ما. لكن عمر قدور لم يكن لديه عقدة الشعر في السرد منذ روايته الأولى، "حواف خشنة"، التي صدرت عام 2002. والآن يتبدى الشيء نفسه في روايته الجديدة "أسماء للنسيان"، الصادرة حديثاً عن وزارة الثقافة السورية. أي أنه لم يحاول نقل بنية الجملة الشعرية ولا غموضها، المبني على اللغة، إلى المتن الروائي. على العكس من ذلك، خلت الروايتان من أي جملة شعرية، أو صورة، أو ملمح شعري حتى.
في "أسماء للنسيان" يحاول عمر قدور أن يعمّق تجربته الروائية أكثر، مؤكداً الأسلوب ذاته، وربما الأجواء ذاتها، التي شكلت عالم الرواية الأولى، متابعاً في لغته السلسة، اليومية والبسيطة، وشخصياته العادية، بشؤونها العادية مثلها، الدوران في بحر التفاصيل الصغيرة، مبعداً كل فكرة كبيرة من ذهن روايته. إنه هنا مهجوس بالحب، ليس الحب الأسطوري غير المسبوق فحسب، بل الحب العادي أيضاً، والذي قد ينوجد في كل مكان.
"أسماء للنسيان"، كما "حواف خشنة"، يسردها الراوي بضمير المتكلم. لكنه هنا يحاول مراراً أن يتقمّص الشخوص، كاشفاً انقلاب ضمائر السرد عن سابق إصرار، أي أنه يمهّد لانقلاب السارد قبل أن ينقلب، رغم إنه يعود أحياناً، في لحظة مفاجئة، ليصبح الراوي الكلي، العارف ببواطن الأمور.
ميناس الراوي، شاب يحاول أن يتذكر عبثاً اسم حبيبته، التي استمرت علاقته بها حوالى ثمانية أشهر، قبل عشر سنين. عبثاً، يدور على كل الشخصيات التي يحفل بها العمل، والتي تلتقي عموماً في خيط واحد هو الحياة الجامعية، كي يذكّروه باسمها، لكن من دون جدوى. رحلة البحث في الماضي، تجعله يقلّب في ذاكرته كل تفصيل له علاقة بحبيبته القديمة، ابتداء بأدقّ تفاصيل جسدها، وجهها، حركاتها، عباراتها، مروراً بأصدقائها وتفاصيل التشعبات الاجتماعية، والحوادث والمغامرات، وكل ما يمكن أن يخطر في بال. كأنها تغدو مجرد فكرة، أو حالة، أو ربما هي رغبة بحبّ مشابه للحب الذي استعادته ذاكرته. وهو بذلك يجاهد كي يقفل عائداً إلى الماضي محاولاً نبش التفاصيل، التي راحت في بعض المناطق تغدو ضبابية، وتتشابك فيها الأجساد والمعالم، وتختلط الشخصيات فتصبح هيولية ولا أشكال لها.
وإذ يتشظى الكاتب مع ذلك التاريخ، ربما يحاول أن يصل إلى فكرة أجدها جوهرية، مفادها أن نبش القبور لن يرمي في وجوهنا إلا العفن، وأن النسيان ربما كان أجمل ما يمكن فعله في الحياة. وبما أن الناس عبارة عن أسماء، أو كائنات تُعرف بأسمائها، فلربما كان نسيان تلك الأسماء نوعاً من قتل الذاكرة، أو من قتل الماضي، الذي يجرّنا إلى الخلف بحبال الحنين الثخينة، أو بحبال الندم، وهو تالياً يعمل على طمرنا ليس إلا.
الحوارات الطويلة التي تعجّ بها الرواية تجعلها اقرب إلى الحكي منها الى السرد الروائي، ما يدنيها من نقل أجواء مجموعة من الشباب الجامعيين في هذا الزمان، ويدخل الرواية في السلاسة طوراً، وفي السهولة طوراً آخر. أما الفلاش باك، الذي يتداخل بشكل مدروس مع النص، فيحكي قصة حارة أرمنية في حلب راح العرب يدخلونها شيئاً فشيئاً. وهنا تبدأ ذاكرة النساء بالتشكل في الرواية. الشخصيات النسائية المتنوعة، والتي يحاول أن يلتقطها بروية، لكن بانسيابية، تواكب ذاكرة الراوي منذ طفولته حتى لحظة البوح هذه. أم فاهي الجارة الأرمنية، وأم رامي المرأة الشهية، ثم صديقته المقرّبة هاسميك، وصديقته التي بدون اسم، وبتول وسهام و... و...الخ.
لكن الشخصيات النسائية الأربع، التي ترفع دعائم الرواية وتحدّدها حقيقة، تتباين بشكل موغل في التنوع، لكنه تباين موغل في النمطية نوعاً ما. أعني أن هاسميك مثلاً، وهي الطفولة - الذاكرة، تشكّل لدى الراوي فكرة الصديقة أو الأخت، التي يغدو من المحرّم التفكير فيها جنسياً. والفتاة التي يحاول تذكر اسمها، هي الماضي - الحب، الحبيبة العفوية أو الطائشة. بتول، الصديقة المشتركة لكليهما، والتي كانت الشاهد على ذلك الحب، تصبح الماضي - الخيانة، ولنقل: الندم بشكل ما. ومن دون ذاك الشاهد، سيغدو الحب نسياً منسياً. وأخيراً سهام، الحبيبة الحالية، والتي تحمل كل ما يمهر الحاضر من نضج وجرأة وانفتاح وغموض أيضاً.
لا أعرف إذا كان عمر قدور يتقصد أن يحوّل شخصيات النساء، اللواتي يدرن في فلك الروائي بحسب التاريخ، أم ان ذلك يحصل صدفة! فأن تكون حبيبة الحاضر ناضجة ذكية، يمكنها أن تكشف خياراتها وعلاقتها برجلين معاً من دون أي ارتباك وبدراية عميقة، فيما حبيبة الماضي هي شخصية معاكسة تقريباً، فذلك يجعلنا نحسد البطل الذي يستطيع أن يعثر على حبيبات يناسبن مراحل نضجه في الحياة!
لكن الكاتب، إذ يحاول أن يدور في فلك الشخصيات الكثيرة، يحاول أيضاً، وينجح حقاً في ذلك، ألا يطلق أحكام قيمة على أيٍّ من شخصيات الرواية. لا يوجد خير ولا شر عند عمر قدور، التنوع والعوالم الملونة، التي يحاول أن ينقلها، هي التي تعكس الإنسان حقيقة، وليس هناك شخصية بصفة واحدة البتة. هذا باعتقادي هو الذي جعله ينتقل، في بعض الأماكن، إلى تقنية الراوي الكلّي المعرفة، كي يبرّر لشخصياته التصرفات والحركات وما يعتمل في الأذهان، بغض النظر عن نجاحه أو لا في تلك التقنية، التي تبدو مقحمة على السرد أحياناً. في نهاية الرواية، وفي محاولة يائسة أخيرة لتذكّر اسم حبيبته، يخطّ الراوي الاسم الذي يهيمن على تفكيره: الصديقة هاسميك. هل كان عمر قدور يقصد أن الصديقة هي الأبقى؟ أم أن الطفولة هي الأبقى؟ أم أن شخصيتها الناضجة هي السبب؟ أم أن كل شيء آيل الى النسيان إلا تلك التي بقيت في منأى عن حبه وجسده بالمعنى الجنسي؟!
أن يقدّم كاتب، كفواز حداد، رواية عمر قدور لسيف ذو حدين. من جهة، سيشجع القارئ بالتأكيد على القراءة، ومن جهة ثانية سيعمل على توجيه تأويلاته وقراءته للنص. شخصياً، ومع احترامي لرأي روائي مهم كفواز حداد، أختلف معه في رؤيته، فهو يحاكم الرواية، على الرغم من إعجابه الواضح بكتابة عمر قدور، باعتبارها نصاً خارجاً على المجتمع، وتؤرخ لجماعة من الشباب الغارقين في الخطيئة والذنوب.
أجمل ما استطاع عمر قدور أن يفعله في روايته هو محاولته التقاط تفاصيل العيش الصغيرة، تفاصيل منثورة حولنا كالهواء، لشباب وشابات كثر، لا أبالغ إذا قلت أنهم يشكلون السواد الأعظم! لكنه يحاول أن يلتقط هذه التفاصيل من دون فذلكة الشعارات، ومن دون ليّ تلك التفاصيل في قوالب الفلسفة والتنظير. من هنا باعتقادي خصوصية هذه الرواية.
روزا ياسين حسن
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد