22-03-2018
«يومين ومنرجع»... من قالها لم يَعد!
تتابع الوالدة الثكلى أخبار الغوطة الشرقيّة يوماً بعد يوم، وتختلطُ مشاعرها بين الأمنيات بنهاية سريعة للعمليات العسكرية، وبين الخشية على سلامة منزلها الذي لا تعلمُ عنه شيئاً منذ خروجها في العاشر في آب عام 2012. تقول: «أحفظ تاريخ خروجي من منزلي باليوم والشهر والسنة، لقد كان نهاراً حاراً، وكانت علينا ملابس صيفيّة، وأخبرني زوجي بأن لا داعي لأخذ الكثير من الحاجيات، لأننا سنعود بعد يومين أو ثلاثة عندما يهدأ الوضع، ولا أزال أنتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر».
مرّت سبعُ سنوات على أم خليل، فقدت خلالها زوجها الذي توفّي إثر مرض مزمن، وتمنّي نفسها بأن تعود لتشاهد صورته التي بقيت في غرفة نومها معلّقة، وتشرح بعدما وضعت عينيها بين قدميها «فقدتُ الكثير خلال سنوات الحرب، لا أرغب سوى الموت في منزلي، مع رائحة زوجي رحمه الله».
لا ينقطعُ الأمل عند توفيق بيرقدار (48 عاماً)، صاحب ورشة خشب في بلدة عين ترما في غوطة دمشق، فقد ترك كل أدواته في محلّه، بعدما خرج بثيابه مع زوجته وأبنائه عند اشتداد العمليات العسكرية أواخر عام 2012.
يعمل أبو محمّد في مهنة النجارة منذ صباه، وقد ورثها عن أبيه، ويتحدّث بحسرة بعدما جلس على علبة معدنية في حي الدويلعة شرق دمشق: «لا يبعد محلّي عن مكاننا هذا سوى مسير خمس دقائق بالسيارة، كم أتمنّى لو أنني أعود لأورث المهنة لابني كما ورثتها عن أبي».
يملكُ النجار الشاب بستاناً يزرعه ويحصده كل موسم، ويعملُ في ورشته بشكل يومي مع خمسة عمّال آخرين، بقوا جميعهم في الداخل، وخرج وحيداً على أمل اللقاء «بعد يومين».
ويعدّ المنزل في سوريا «حُلماً» بعيد المنال، أو يتحقّق بعد جيل أو جيلين، إذ تعتصرُ كامل العائلة طوال عشر سنوات أو عشرين سنة من أجل تأمين ثمنه، أو تقسيط المال المُستدان من المصرف أو من أحد التجّار، لكنّ سنوات الحرب جعلت الحلم مستحيلاً، ويميلُ معظم السوريين إلى الاستئجار بعدما صارت مهمّة شراء المنزل مكلفة للغاية.
لا تزال أمّ خليل تتغزّل بصحون مطبخها في منزلها بحيّ زملكا
طحنت ماكينة الحرب معظم المنازل في الأماكن التي دخلتها، وأما تلك التي لم تدمّر، فأمست غير قابلة للحياة، وسط ركام أو انعدام للبُنى التحتيّة.
على الطرف الآخر، انقطع الأمل من هنادي (اسم مستعار) بعدما خرجت من منزلها لحضور عرس أختها. خرجت بما عليها من ثياب، لكن اشتباكاً في حي برزة قطع الطريق إلى منزلها، وبقيت «يومين» عند بيت شقيقتها العروس ريثما تهدأ النفوس.
عادت هنادي قبل عامين إلى برزة، لكنّها عادت وحيدة من دون زوجها الذي قضى برصاصة قنص أثناء محاولته التسلل إلى المنزل من أجل إحضار الأوراق الثبوتية والذهب. عادت ولم تأخذ شيئاً من المنزل، لكنها ألقت البنزين في كل مكان، وأحرقت المنزل، وهاجرت إلى كندا.
تقول هنادي: «لقد غيّرت اسمي، وأحرقت منزلي، ولم آخذ شيئاً معي من سوريا، أريد أن أنسى كل تاريخي وأبدأ حياة جديدة، ولو كنت أعلم أن زوجي سيقضي قنصاً، لما سمحت له بالذهاب إلى المنزل».
خلعت هنادي حجابها، وحلقت شعرها، وحذفت كل تطبيقاتها على برامج التواصل الاجتماعي. وتنشرُ يومياً صوراً من مدينتها التي تقع جنوب البلاد، وتضيف «زوجي كان وطني وكل حياتي، والآن لا وطن لي».
«وطن» أبو أمجد داعورة دمّر أيضاً جراء المعارك العنيفة التي دارت في بلدة المليحة في عام 2013. عاد ليشاهد «دماراً مكوّماً» مكان منزله في عام 2014، بعدما سيطر الجيش السوري على البلدة.
لم يُسمح بعودة السكّان بعد إلى البلدة، لكن تمكّن أبو أمجد (37 عاماً) من التسلّل إلى مكان منزله جانب مشفى الصفا عبر سيارة عسكرية، ومن خلال معارفه، لكنّه وصل ولم يجد شيئاً. يقول وهو يبتسم «التفتُّ يميناً فلم أجد شيئاً، والتفتُّ يساراً، ولم أجد شيئاً، وكنت أذكر جيّداً أن على جانبَي هذا الشارع أبنية على طول النظر، وعلمت بعد لحظات أن جميعها تحوّلت إلى كومات من التراب».
تغيّرت ملامح البلدة بشكل كامل، لكن ملامح وجه أبو أمجد تشي بسخرية أو نكران للحالة التي وصل إليها.
يحملُ هاتفه ويقلّب صور منزله القديم، ويقول «عادت المليحة، لكن منزلي لن يعود، وإن عادت الحجارة فإن ذكرياته ودفئه لن يعودا، منزلي عبارة عن مجموعة من الصور في ذاكرتي وفي هاتفي المحمول».
تزامناً مع الدخول في العام الثامن للصراع في سوريا، تسترجع الذاكرة صور النازحين التي تجدّدت بخروج الآلاف من بلداتهم ومنازلهم في الغوطة الشرقيّة. كثير منهم كان ينوي أن يبيت عند أقاربه على أمل العودة «بعد يومين»، لكن لم يدرك أياً منهم أن الأيام طالت حتى أمست ثمانية أعوام، وتعود صور النازحين من الغوطة ومن مدينة عفرين شمالاً لتذكّر الجميع بأن الحرب لم تنته بعد، فهي قد بدأت للتو عند مئات آلاف السوريين.
ماهر المونس - الأخبار
إضافة تعليق جديد