«قهوة مرّة» لـحازم حداد..«الحلبي الأخير» يحيي فنون المدينة
كان له بيت في حلب، جيران وأصحاب وخِلان؛ زوجة جميلة وبنت وولد يشدان له أكمام سترته كي يرقص لهما رقصة (عربية)، «أبو سمعو» العامل البسيط في مصلحة الأعراس؛ ها هو يسقي جمهوره في مسرح الحمراء «قهوة مرّة من 8 إلى 12 آذار، مديرية المسارح» ففي عزاءٍ مفتوح استمر لقرابة الساعة، أخذ الفنان حازم حداد كاتب ومخرج وممثل العرض بخاطر جمهوره.
مونودراما حلبية من عيار ثقيل ولاذع؛ تَوَّجَها حضور هذا الممثل على الخشبة واستماتته في تعبئة فضائها الكبير. بدا وكأن «حداد» هو «الحلبي الأخير» الذي يحاول بكامل قواه العصبية والنفسية سرد ما حدث لمدينته التي تعيش منذ أيلول 2012 أبشع أنواع القتل والتدمير لإنسانها وتراثها في ظل حرب لم تبقِ ولم تذر.
محاولة شجاعة لملء فضاء أحد أكبر مسارح دمشق بموشحات حلب وقدودها ورقصاتها الفولكلورية عبر ممثل واحد؛ ربما لم تُسعفه أدواته بعض الأحيان لربط خيوط القصة التي قام بروايتها عبر صيغة « المُخاطب الغائب»؛ حيث اعتمد «حداد» في ذلك على ما يشبه «مشاجب» متنوعة لتجسيد الشخصيات التي قام بالسرد على لسانها أو الحوار معها؛ بدءاً من مشواره مع جاره «أبو علي» تحت رصاص القنص المتبادل؛ مروراً بزوجته «أم سمعو» ورحلته معها بصحبة طفليهما الصغيرين، وموت شريكة العمر بطلقة طائشة؛ وصولاً إلى شخصيات «الضابط، شيخ الفتاوى، رئيس مجموعة مسلحة، معلِّم المدرسة، شاب صغير، العروس».
جوقة من الأزياء المعلقة لبشرٍ جفت دماؤهم تحت شمس الحرب؛ استحضرها الممثل السوري القادم من مدينة سيف الدولة؛ محاولاً إبقاء الجمهور يقظاً لكل تفصيل من المسرحية؛ فعبر إضاءة «نصر الله سفر» وديكور «ممدوح عباس» توضحت حكاية «أبو سمعو» الذي تصل به نزهته بين المتاريس المتناحرة إلى أحد مراكز الأمم المتحدة للإيواء، لتتركه ابنته بعدها وتتزوج على غفلةٍ منه؛ وليبقى وحيداً مع ذكرياته عن مدينة ـ تبدو مسرحية الممثل الواحد هنا ـ عاجزة عن نقل ركامها وخراباتها الكثيفة إلى الخشبة؛ لكنها محاولة طيبة خاضها مخرج العرض برفقة الدراماتورغ أسامة السيد يوسف للتعبير عن حجم الدمار الذي لحق بعاصمة الشمال؛ إلا أن العرض ارتطم بفضاء مسرح الحمراء؛ فخيار المخرج لمكان العرض صعّب المهمة على الأداء، وجعله مُرهقاً له؛ بينما احتفظ «قهوة مرة» بصياغة حركية بددت جهد ممثل استشاط ساعته على الخشبة؛ ليبدو الميزانسين دونما توظيف لحالة الشخصية التي قدمها «حداد» بل أقرب إلى صراخ مطوّل؛ تباعدت فيه أنفاس الممثل عن إيقاع خطواته المبعثرة على أرضية الخشبة، ناهيك عن قطع الديكور «قلعة حلب، البيت، المقبرة» التي صادرت بدورها على مخيلة الجمهور؛ كونها ظلت فائضة وغير ذات علاقة باللعبة المسرحية، في حين كان التركيز على أسلوبية مسرح الأغراض بارعاً واستثنائياً؛ لا سيما التعويل على قطع الملابس والإكسسوار؛ والاستفادة من توضيب مناخات متعددة للأماكن التي قطعها « أبو سمعو» أثناء رحيله عن حلب. مشادات كلامية وأخرى جسدية لعبها «حداد» مع نفسه في مونودراما بدت أقرب إلى عروض الـ «One man show» منها إلى تلك العروض النفسية المعقدة التي تعتبر المسرح فناً شخصياً؛
تعتمد «قهوة مرة» بشكل كثيف على الرقصات والأهازيج والمواويل الحلبية؛ مغلّبا طابع الاستعراض على بناء الشخصية المسرحية. هكذا تبدو وصلة الطرب والموال السبعاوي ورقصة العرس التي قدمها «حداد» بمثابة نافذة على فنون أداء شعبية حاول العرض تطويعها في العرض؛ دون الاقتراب ولو لمرة من الصراع الداخلي، أو الصراع مع النفس؛ كجوهر لعروض المونودراما؛ بل كان «قهوة مرة» أقرب إلى حكواتي تقمص أصوات وأجسام شخصيات أخرى، من دون أن يكون هناك تغريب بين الحكاية والحوار. قهوة مريرة تلوي القلب؛ ونكء لجراح لا تزال غائرة في الجسد السوري الممدد على خشبة؛ خيمة عزاء ربما سيحتاج زوارها عند دفن موتاهم؛ إلى كل أشجار البن في مشارق الأرض ومغربها..
سامر محمد إسماعيل
السفير
إضافة تعليق جديد