«رحلة باريس» لفرانسيس مرّاش

08-09-2007

«رحلة باريس» لفرانسيس مرّاش

عام 1867 قرر فرانسيس فتح الله المرّاش، الحلبي السوري، ان يسافر الى باريس عاصمة فرنسا. إنها واحدة من الرحلات الاولى الى اوروبا، والرحلة الى اوروبا تلك الايام كانت في جانب منها حجاً الى العقل والحرية. لم يسافر فرانسيس المراش الى باريس الا وقد أخذ بأسباب اللغات، كما يقول في النص الذي كتبه عن
رحلته، وسافر بالطبع سعياً الى الاطلاع على التقدم والتبحر بأحوال العصر ومعرفة سبل الحق والعلم. ففرانسيس المراش الذي عدّه كثيرون أول روائي عربي في «غابة الحق» كان بالتأكيد أحد أوائل رواد النهضة وواحداً من كبار المستنيرين في أيامه. ويمكننا ان نقول إن الجامع بين المستنيرين في عصر المراش كان التطلع الى اوروبا، وتحري احوالها، والتفكر في سبل اللحاق بها. التنوّر ذلك الحين كان يعني في اول ما يعني الايمان بالعقل والعلم والحرية والعدل، وهذه في نظر مثقفي ذلك الزمن كانت منارتها اوروبا، فالغرب يومذاك كان دولة العقل والحرية.
لا ننتظر من فرانسيس المراش وصفاً دقيقاً للمدن التي مر بها قبل ان ترسو به الباخرة في مرفأ مارسيلية. إن له كلاماً عن الاسكندرية وحلب والقاهرة. بعض هذا الكلام تجعله البلاغة والتنميق فضفاضاً، وبعضه حافظ على دقته كذلك الحديث عن اسواق القاهرة وأزقتها. أما وصف المراش لمارسيلية وليون، فيندرج في السياق ذاته. غلبة البلاغة والتنميق يذهبان بالدقة الى ان يصل به المطاف الى باريس. هنا يتكلم تكلم المبهور والمفتون، وهنا يعصى الكلام على صاحبه فيبدو هو الآخر عائماً مطاطاً. إنها باريس عاصمة الدنيا يومذاك، وهي بالتأكيد بالنسبة الى المراش عاصمة العقل وعاصمة الحرية وعاصمة العلم، الأقانيم الثلاثة للمتنورين العرب الذين جعلوا منها ديناً. لكن شائبة ما تعكر سكر المراش بباريس، لقد لاحظ ان طلاباً يحتجون على استاذهم لتطلبه ودقته وأخذه بالصعب. ذلك بالطبع يلطخ الصورة النقية لفرنسا والفرنسيين. لكن المراش لا يتوقف طويلاً عندها، اذ يقرر ان هذا هو مذهب أقلية الطلاب وأن غالبيتهم، بخلاف ذلك، مجدّة عاكفة على العلم.
رحلة المراش اذن ليست رحلة عادية. انها رحلة الى التقدم والعقل. والمراش كمستنيري عصره، وهو اولهم، داعية عقل. إنه مثلهم يعارض بالعقل والحرية والعلم ما كان يعمي على مجتمعه من سيطرة للغيب والاستبداد والجهل والتسليم. مملكة العقل اذن تعارض مملكة الغيب وسطوة رجال الدين.
مع ذلك فإن سكرة المراش بالغرب ليست نهائية، مثله مثل كثيرين في زمانه، وجدوا في الغرب ما يسيء. في سياحة العقل يقرر المراش ان التوحش هنا يحكم بالتمدن، وأن التمدن الظاهر لذلك ليس سوى بربرية مستترة. هذا بالطبع يشعرنا بأن سياحة المراش العقلية قد انتهت الى شيء من النقد وشيء من الاحتجاج. فالغرب لم يبق بالنسبة اليه الملكوت الذي يظنه. مثله مثل الشدياق لم يسلم المراش للغرب بكل شيء. لقد اكتشف في مملكة العقل هذه ثقوباً سوداء، ورأى تحت ظاهر التمدن بربرية كامنة، اذا كان الغرب هو العقل والحــرية فهو أيضاً الاستعمار وهو ايضاً الظلم. هكذا ينتقل المراش من سياحة الغرب الى نقد الغرب.
«الكتاب للجميع»، يضع في مكتبتك هذا الكتاب الأم التأسيسي. إنه تراث النهضة العربية وتراث التنوير العربي بين يديك.

المصدر: السفير

  
 


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...