«المهزلة البشرية» لبلزاك: الأدب كمرآة تتّسع لألف حياة وأكثر
«ثمة في هذا الكون على طول تاريخه أربعة رجال كان من حظ كل واحد منهم أن يفوز بحياة فسيحة حقيقية: نابليون، كوفييه، أوكونيل، وأنا رابعهم، أو على الأقل هذا ما أود أن أكونه. الأول عانق حياة أوروبا كلها مستخدماً الجيوش من أجل تحقيق ذلك، الثاني عانق الكرة الأرضية كلها، والثالث وجد نفسه يجسد شعباً بأكمله. أما أنا، فإنني أشعر بأنني أحمل مجتمعاً بأسره في رأسي». هذا الكلام كتبه أونوريه دو بلزاك، الكاتب الفرنسي الأبرز في القرن التاسع عشر، الى حبيبته السيدة هانسكا في السادس من شباط (فبراير) 1844، مشيراً بكل حماسة الى إنجازه أجزاء أولى من عمله الأدبي الكبير «المهزلة البشرية»، ذلك العمل الذي عاد بعد ذلك بعام يكتب عنه موضحاً في رسالة الى صديقة أخرى له هي زولما كارو: «إنك لا يمكنك أبداً أن تتخيلي ما هي هذه «المهزلة البشرية»؟ إنها أكثر ضخامة - من الناحية الأدبية - مما هي عليه كاتدرائية بورج - من الناحية المعمارية».
> الحقيقة أنه إذا كان في مقدور القارئ أن يلمس شيئاً واضحاً من الغرور والمغالاة يرشح بقوة في ثنايا هذا الكلام، الذي كتبه بلزاك بخط يده في الرسالتين المشار إليهما، يكفي المرء أن يعود الى ذلك العمل البلزاكي، اليوم، ليتيقّن من أن الكاتب إنما كان يصف واقع الأمور وربما بقدر كبير من الموضوعية التي عُرفت بها كتاباته كلها على أية حال. ذلك أن «المهزلة البشرية» ليست رواية، أو «ثلاثية»، أو حتى سلسلة من الأعمال، بل إنها تتّسع لتشمل روايات بلزاك كلها، رواياته التي كتبها طوال حياته. وهو، والحق يقال، كتب روايات كثيرة قد لا يضاهيه فيها عدداً سوى مواطنه إميل زولا. والذي حدث يومها، أن بلزاك توقف ذات يوم، وكان لا يزال في بداياته، ليجد أنه أنجز كتابة روايات عدة، وليكتشف أيضاً أن ثمة وحدة عضوية وموضوعية - إن لم تكن أسلوبية - تجمع بين تلك الروايات، فقرر أن يعطيها اسماً واحداً يعبّر عن وحدتها تلك موفراً على الباحثين والنقاد لاحقاً، مشقة العثور على عناصر تلك الوحدة. ومن هنا، فإن «المهزلة البشرية»، ليست كما قد يعتقد البعض عملاً كبيراً كتبه بلزاك خلال مرحلة من حياته، بل هي عمل حياته كلها، وتضم نحو 140 رواية متفاوتة الحجم، متنوعة المواضيع، متبدلة الجودة، لكن ما يجمع بينها جميعاً، إضافة الى أن كاتبها واحد، كونها تغوص في حكايات المجتمع، بواقعيتها وغرائبيتها، وتتعمق في وصف المشاعر البشرية: هي، في اختصار، رحلة في النفس البشرية ضمن إطار بيئة هذه النفس. فبلزاك، وإن كان كتب روايات غرائبية، لم يبتعد في جوهر مواضيعه من الإنسان وهمومه. وفي صورة عامة، يمكن اعتبار رحلة بلزاك في أرض الواقع وأهله، جواباً على رحلة دانتي في ثنايا الما - وراء، وتجلياته. والعنوان ينحو الى توضيح هذا على أية حال.
> إذاً، من الواضح أن «المهزلة البشرية» بشخصياتها التي تعد بالمئات، وأحداثها التي تبدو أحياناً متشابكة متداخلة، وفي أحيان أخرى منفصلة، وبأبطالها الذين يغيبون في نصوص ليعودوا في نصوص أخرى، هي رحلة في ثنايا الحياة، وأيضاً في ثنايا فكر بلزاك. ولقد وضع هذا الأخير بنفسه، برنامج توزيع هذا العمل، ذات يوم، متحدثاً عن الأعمال المنجزة والمنشورة، وعن تلك التي لا يزال عليه أن ينجزها، علماً أن حال بعضها ظلّت على ذلك النحو، من بعد رحيل الكاتب. وقسم بلزاك أعمال هذه «المهزلة» في برنامجه، الى ثلاثة أقسام رئيسة: الأول يحمل عنوان «دراسات في الأخلاق»، والثاني «دراسات فلسفية» والثالث «دراسات تحليلية». وذلك تبعاً للتوجّه العام لمواضيع رواياته، من دون أن يعني ذلك، بالطبع، أن ليس ثمة تداخل بين المواضيع والتوجهات.
> في القسم الأول، نجد عناوين أخرى موضوعية عددها ستة وهي على النحو التالي: «مشاهد من الحياة الخاصة» (وفيها 32 رواية، أربع منها ظلت في شكل مشاريع ومسودات)، «مشاهد من حياة الجنوب» (وفيها 17 رواية، منها ست لم تنجز)، «مشاهد من الحياة الباريسية» (وفيها 20 رواية، بقيت ست منها على شكل مشاريع أو مسودات)، «مشاهد من الحياة السياسية» (وفيها 8 روايات نصفها لم ينجز أبداً)، و»مشاهد من الحياة العسكرية» (وفيها 23 رواية، لم ينجز منها الكاتب غير روايتين)، وأخيراً «مشاهد من حياة الريف» (وفيها 5 روايات، أنجز ثلاثاً منها). وفي القسم الثاني، يورد بلزاك 27 اسماً لروايات ونصوص ظل خمس منها على شكل مشاريع. أما في القسم الثالث، فيورد خمسة عناوين لم يحقق منها سوى واحد: «تشريح طبيعة الزواج».
> والحال، أن هذا التقسيم الذي ظل قيد التنفيذ من دون أن يكتمل أبداً، إنما يكشف عن الفارق الكبير بين نوايا الكاتب وطموحاته من جهة، وبين ما أتاحه له الزمن والإمكانات، ومع هذا فإن ما يجدر قوله أن بلزاك خلف القسم الأعظم من هذه الأعمال، وإن في شكل إرهاصات. وهذا ما جعل الباحثين، حين الحديث عن هذا العمل - الذي استغرق حياة بأسرها، وعجز عن تقليده في وحدته، أي كاتب آخر من بعد مؤلفه - يتحدثون عن «المهزلة البشرية» على النحو التالي: «من أحلام بلزاك وطموحاته، الكاتب الأكثر خصباً في تاريخ الأدب الفرنسي، وربما العالمي، يبقى لنا سفره الخالد «المهزلة البشرية»، هذا الكتاب الفريد والمَعْلم، الذي يتألف من لوحات ومشاهد لا تعد ولا تحصى، حيث يبدو في نهاية الأمر على شاكلة قصر هائل المساحة، زين بعض غرفه بطريقة رائعة، بينما اكتُفي بإعادة طلاء غرف أخرى، وبقيت غرف ثالثة رسوماً على الخرائط لا أكثر».
> ويقيناً أن هذا القصر المؤلف من كلمات وصور، يحتوي على بضع حدائق تبدو مملوءة بالأسرار والغوامض، وذات ممرات تفضي الى أقبية سرية مثيرة للقلق. والى هذا، ثمة ممرات عارية تصل الصالات والغرف ببعضها بعضاً، فيما يعرف الخائض في غمرة هذا كله أن ثمة خلف الغرف سلالم معتمة تكاد تكون بدورها ممرات تفضي الى قصور أخرى غامضة لا يمكن أحداً أن يطأها.
> والحقيقة، أن هذا كله يجعل من «المهزلة البشرية» مرآة حقيقية للعالم وللروح الإنسانية، وإن كان لم يفت بلزاك، أن يدلي بدلوه في عالم الكتابة الغرائبية رابطاً بين التاريخ والخيال والواقع الصادق في بوتقة واحدة، وحسبنا للإشارة الى هذا أن نشير الى شخصيات مثل لوي لامبر، الذي لفرط ما فكر في الأمور الغامضة أصبح مجنوناً، مثل رجل أعماه الضوء الباهر للواقع، وبلتازار كلايس الذي ينفق ثروة أهله في بحثه المستحيل عن المطلق، والرسامين اللذين يتساجلان حول معنى لوحة لم يرسم رسامها عليها شيئاً لأنه إذ أفرط في بحثه عن المطلق وجد نفسه عاجزاً عن رسم أي شيء، أو كاترينا دي ميديسيس التي «تحضر» لتنصح روبسبيير... الخ.
> هذه «المهزلة البشرية» كتبها بلزاك طوال الجزء الأكبر من حياته التي امتدت بين ولادته في عام 1799، وموته في عام 1850. ولئن كان بلزاك ولد مع انتهاء عصر الأنوار، الفرنسي/ الأوروبي، وعاش في خضم الرومانسية، فإنه كان في الواقع ابناً باراً للأنوار، وحرص طوال حياته على الابتعاد من رومانسية - بلزاك، لم يفتها على أية حال، أن تتسلّل الى داخل أعماله. وكانت بداياته عام 1822 مع كتابته عدداً من النصوص التي تأثر فيها بالأدب العلماني الإنكليزي الساخر، دامجاً فيها حكايات الأشباح وما الى ذلك. وبعض تلك النصوص دمجه بلزاك لاحقاً في ملحمته «المهزلة البشرية»، ضارباً الصفح عن البعض الآخر. أما المجد الحقيقي فبدأ يعرفه في عام 1830، حيث راحت تتلاحق رواياته التي لا تزال حية حتى يومنا هذا، تقرأ وتقتبس للسينما والتلفزة، وتجعل لصاحبها حياة متواصلة، قلما حظي بمثلها كاتب آخر من كتاب القرن التاسع عشر، وبدا من خلالها معاصراً جداً.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد