أوغســت شــابو الفنــان الــذي كبــر فــي الظــل

21-09-2012

أوغســت شــابو الفنــان الــذي كبــر فــي الظــل

أتلف أوغست شابو Auguste Chabaud (1882 - 1955) معظم أعمال المرحلة الأولى من حياته. كتب لاحقاً بأن فترة إقامته في باريس بين عامي 1899 و1901 لم تنجب شيئاً على المستوى التشكيلي. إنها الفترة العقيمة بالنسبة له. لكنه سيظل يشعر حيالها، رغم كونه مجرد مراهق في تلك الفترة، بالتزام ما. وسيحرض نفسه على ترجمة هذا العقم لاحقاً. عاد إلى بروفانس في الجنوب الفرنسي بعدها أواخر القرن التاسع عشر، شاباً مفلساً.أوغست شابو:رسم ذاتي في تلك الفترة، كانت صناعة النبيذ، تمر بفترة حرجة جداً. مزارع العنب وُضعت على الرف. بسبب ذلك لن يكون بإمكان الشاب شابو، والذي سيعتبر أول واضعي بصمات المدرسة الوحشية (fauvism) وأحد مثبّتي التعبيرية في المشهد الحديث، أن يجد عملاً. إنه بحاجة للألوان والقماش. سيستعيض عن الأخيرة بورق يستعمل في لف اللحمة. سيجمع الورق، الذي تتراوح سماكته بين الورق العادي والكرتون، وله لون الكرتون تقريباً، من عند الجزارين. وعلى ذلك الورق، سينجز مجموعة من الرسوم. متحف بول فاليري في مدينة سيت، وبعرض مجموعة واسعة من أعماله، يحتفي بهذا الرسام الذي لم تستطع أصابعه القبض على أسلوب يستقل تماماً عن المدرسة التكعيبية، أو الانطباعية قبلها، أو التجريدية حتى. الامر ربما في غاية الصعوبة، حين تكون فناناً تشكيلياً بزغ نجمه بعد وفاة فان غوغ مباشرة، في فترة زمنية كان الأستاذ بول سيزان يضع الخطوط العريضة لها بدراسته أو بأعماله التي قلبت الطاولة، قبل أن يغزو المشاغب بيكاسو باريس، بأعمال تكعيبية رائدة.

هل هذا فن؟

في بروفانس، سيقضي شابو الفارغ مادياً و«تشكيلياً» وقته مناوراً بين دكاكين اللحمة ومناظر الفلاحين والحيوانات والبيوت. الحياة اليومية مدخله الفكري إلى اللوحة. والمَشاهد التي تعيد نفسها بإصرار، سيمتصها ليرجعها إلى العين بصورة أخرى. إنه فنان النيغاتيف بالأصفر والأزرق، اللونين اللذين سيتشبث بهما حتى أعماله الأخيرة. ليس من الضروري أن ترسم الأرض بنيّةً ولا السماء زرقاء ولا ورقة الشجرة خضراء ولا شعر الفتاة أسود أو كستنائيا. فلتكن الارض زرقاء باهتة، وشعر الفتاة أصفر فاقعا مثلا والسماء رمادية. وعندما سيقف كبار النقاد أمام أعماله، سيشعرون بالمهانة «أهذه دعابة أم مزحة ثقيلة؟ هل ثمة من يعتقد فعلاً أن هذا فن؟» كان من المنطقي جداً أن يقع موقف النقاد كالصاعقة على الفتى شابو. غير أنه لم يأبه. في مرحلته الاولى، سيبدي تأثراً بريشة فان غوغ، وتمهيدية بول سيزان للتكعيبية وخطوطه. غير أن لوحاته ومن خلال احتفاظه بكينونة كل لون على حدة وإبقائه متذبذباً بعيداً إلى حد ما عن سلطة اللون الآخر المجاوز له، ستحتفظ بمرونة خاصة به. العالم مفككاً ضمن إيقاعات ومعدّلاً نحو السواد أو الظلمة. إنه الأقرب لنا في كل حين ومكان. وهو وجوب رؤية المحيط بالعين التي لنا، بعيداً عن أي سلطة قميئة، ثقافية إيديولوجية أو سياسية كانت. شابو يعيد تقييم الشيء بإعادة صلته بذاته، رغم وجوده ضمن سلسلة أشياء. لا يمكن للوجه أو الإبريق أو ريشة الطائر إلا أن تجد نفسها جميعاً في متلازمة مشروطة بوجود أشياء أخرى. السهرة، الطاولة أو المدينة. من هنا يبدأ بحث شابو في أعماله. لن يرسو الرجل على مدرسة، وسيكون قدره التزامه بأنماط، أو تأليفه أنماطا أو سياقات تشكيلية لن تدوم طويلاً، غير أن الأجيال اللاحقة ستنقل أثرها بأمانة ضمن ستايلات جديدة. حين سيعود أوغست شابو إلى باريس، سيؤخذ بالمدينة التي غزاها المعدن والإعلان. لن يصور أحد المدينة الفرنسية كما فعل شابو. سواء من حيث وقوفه على زوايا بانورامية ليست بالأمر المغري كثيراً للفنان التشكيلي، أو تفعيله اللوحة من خلال التركيز على طبقة أولى هي لوحة الإعلان، ومن خلفها جزء من الجسر بأضلاعه المعدنية المنفرة، أو ببحثه في الفضاء عبر استضافة هذا الفضاء الحاد والمفزع في فراغه. سيتلاعب من خلال هذا بالأبعاد الجيومترية. وهو الآتي إلى العاصمة الفرنسية بعد تجربة مريرة مع الجيش الفرنسي كولونيالياً في تونس. البلاد الخضراء تلك ستكمل معه اتفاق المكان باللون أو «لا اتفاقهما». وسيظفر الفنان بمجموعة من اللوحات التي تبيِّن تأسيسه لأسلوب في الخط سيشكل الحدود والنصل لكل مكون من مكونات اللوحة في أغنى مراحله اللاحقة. بعد عودته إلى باريس، سيرى المدينة مجرد قطع من المعدن، ومزبلة للصناعة ومصباً لهدير الآلات. إنه شابو المتشائم، أو على الأقل البادي بهذه السمة في لوحاته. باريس في مرحلة أولى هي تمهيد. لا أناس يبرزون في اللوحة، مجرد حراك بطيء لأشياء المكان، ثقيل وقاتل، وسيبقي شابو على ألوان تعبيرية، لكن مع إسقاط الرمادي والأسود في استقدام واضح للتراجيديا، وتشديد عليها.
هي المرحلة التي ستسبق انفلاته على الحياة الصاخبة في باريس، وإعادة إنتاجها فنياً بصورة لا تخلو من الاحتجاج. كارتييه بيغال، بأجوائه الخاصة، ومجتمعه المرفّه وعربات أحصنته ونسائه المزينات بالريش والجواهر والسيجارة الرفيعة، سيمثل له مرحلتين. في الأولى سيتمحور بحثه التشكيلي في إيجاد بيئتين تتحاوران حول معنى «العابر». بين وجوده هو، خلف اللوحة، ووجود اللوحة في حد ما، خلف ظهره. شابو يرسم وكأنه يلطخ المكان من وراء ظهره ويمضي. إنه المتواري تماماً كالمنظر الذي سيغدو ميتاً بعد لحظات. ذلك ما نميل للاعتقاد به، ونحن ندرس باقتضاب المطارح التي وضع عينه فيها ورسم منها. المناظر التي التقطها أشبه بمقاطع سينمائية، متحركة في اللون. إنها مادة بصرية عابرة وسط الضجيج. وقد لا تكتسب بعداً أكثر من كونها أحد مكونات هذا الضجيج، وقد لا تمتاز عن أي مكوِّن بصري آخر من حيث الدلالة. هل هو اختبار للعلاقة بين الزمن والجُزيء الآفل من المدينة المتحركة؟ من المجتمع؟ من حضور المارة؟ أو حتى منه هو شابو حيث يقف أو يمشي؟ بذلك، فإنه يتلاعب في لحظة فظة، تتدافع مع لحظات أخرى، دون أن ترك أية قيمة للعين. لحظة تولي اهتمامها بالحركة الاجتماعية المادية لا أكثر. وستنحصر فقط في كونها أحد أجزاء الزمن الكلي، المشترك. شابو يوقّع صورته كفنان غير مرئي وغير مزعج. إنه هناك ليقذف رؤيته غير البيضاء (كي لا نقول السوداوية). شخص عابر يضاف إلى عابرين كثر ينظرون إلى سيدة أرستقراطية أو حصان يجر عاشقين متنفذَيْن. في لوحاته إذاً، ثمة إنكار لوجود صانع العمل التشكيلي. وذلك يتجلى أولا عبر الناحية التي يمتص منها المنظر، وثانياً عبر الألوان الفاقعة التي يستخدمها ملوحاً بيدين، واحدة تعبيرية وأخرى وحشية. سنميل إلى الاعتقاد أيضاً أنه، مع الرسام الفرنسي تولوز لوتريك، بين قلائل، سيضعان أولى العزقات في سلّم البوب آرت الذي سيعتليه آندي وارهول مرتاحا في ما بعد.

الأمكنة

ولعل شابو لن يقبض على أسلوب خاص مئة بالمئة به، لارتباط لوحاته بخصوصية الأمكنة. المكان يوفر له القانون، الهندسي والتشكيلي، ويدله على مدى رعونة الخط أو قسوته أو توحشه أو تطرفه. حين سيسافر مجدداً إلى بروفانس، سيقدم المساحات الفارغة في اللوحة ويؤخر إلى الوراء التفاصيل الأخرى. الأكثر أهمية من هذا سيتجلى في الخط نفسه والكتلة والعودة مجدداً إلى مخزون فان غوغ أو سيزان في عمله. ليس من الإنصاف إرجاع أعمال شابو إلى شبح هذين الرسامين أو سواهما. غير أن تركته الفنية تمثل جزءاً من الحراك التشكيلي. شابو وإن نهل، تأثراً لا تقلداً من أي مدرسة سادت آنذاك، فإنه لا يمكن قراءة تلك المرحلة الخاصة أوائل القرن العشرين من الفن التشكيلي دون المرور بأثر ابن الجنوب الفرنسي. وظله الذي مر خصوصا فوق سقوف التعبيريين لاحقا. نحن نتحدث هنا عن تجربته قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى، وتحديداً بين عامي 1906 و1911. إنها تجربة شاب عشريني، استطاع أن يشق بمركبه غير النجم طريقه وسط أسماء كبيرة. هل كان محفزه رفضه للعالم؟ أم كان العالم مجرد مادة «واقعية» استوجب عليه إيقافها رأساً على عقب، وخضخضتها لإعادة توزيع المسلّمات اللونية للأشياء. لاحقاً، وهو غير المستعجل رغم كثافة أعماله، سينصرف إلى اللون النيء. الأحمر تحديداً، أو الأزرق «الناشف» أو «غير الحي» الذي سيرافقه مشكلاً قوام الكثير من أعماله. عند موديلته إيفيت، سيدرس الجسد مبرزاً خطوطه النافرة، الردفين والوركين، النهد، العنق، البطن المتهدل قليلاً. أقسام الجسم ستخرج عن صيغتها البيلوجية أو الإيروتيكية لتنعتق في علاقة مع الخط العريض غير اللطيف والمساحات اللونية الشاحبة. الجسد سيتنافر بذلك مع المادة التي تصوِّره أو تحدِّده. وفي واحدة من أشهر لوحاته «إيفيت مع ريشة حمراء» (Yvette à la plume rouge)، سيصرّف شابو كائنه بين هدوء نفسي وثقل لوني حاد، تاركاً لنا نسخة من الأنوثة لنصطدم مع معناها، أو لنفتشه بطريقة مغايرة. قد لا يكون أوغست شابو من تلك الأسماء التي صنعت مجدها الغاليريهات وكتب الفن والأسعار الباهظة والمواقف السياسية الجاذبة، إضافة بالطبع إلى عبقرية أعمالها، إلا أنه سيبقى واحداً من قلائل، وقفوا في الظل وعملوا على دفش أبحاثهم الخاصة في برك تشكيليين فاقوهم براعة في استغلال الفرص والاقتناص.

مازن معروف

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...