راي برادبوري: الثقافة أخطر أعداء الكاتب، إنها تقتل الإبداع

15-06-2012

راي برادبوري: الثقافة أخطر أعداء الكاتب، إنها تقتل الإبداع

كنا أشرنا الأسبوع الماضي، إلى رحيل الكاتب الأميركي راي برادبوري، الذي عرف كيف يجعل من رواية الخيال العلمي، رواية شعرية بامتياز، على الرغم من أن هذا النوع الكتابي، يتطلب عادة الكثير من الأفكار. عبر مجموعة من الكتب، نجح الكاتب في فرض اسمه كواحد من أهم كتاب القرن العشرين، وبخاصة مع رائعيته "الوقائع المريخية" و"فهرنهايت 451". هنا ترجمة لمقتطفات من آخر حوارين أجرتهما معه صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، ومن خلالهما ندخل أكثر إلى تفكير هذا الكاتب وإلى طريقته في العمل.

÷ فيما لو استعدنا أحد عناوين أقاصيصك الشهيرة، هل تعتقد أن أحداث 11 أيلول كانت بمثابة "ضربة صاعقة" بالنسبة إلى الولايات المتحدة؟
} بالطبع كانت كذلك. ومع ذلك أجد أن هذا الأمر المأساوي لم يقدم أي درس لمسؤولينا. كان على تدمير البرجين أن يقود الولايات المتحدة إلى أن تعي أن سياستها الخارجية جائرة بشكل عميق. كان علينا أن ندفع هيئة الأمم كي تستثمر في الشرق الأوسط منذ عشرين أو ثلاثين سنة للحفاظ على حدود مرسومة بين فلسطين وإسرائيل. هناك ملايين الأشخاص المعنيين بهذا الأمر. لكننا لم نفعل شيئا. اخترنا أن نعترف بإسرائيل لا بفلسطين. فضلنا أن نهتم بمصالحنا وبقوادنا الذين يحكمون بدلا من أن نهتم بالبشر. بهذه الطريقة أستطيع شرح كارثة 11 أيلول. هذه العملية الإرهابية قد أصابتنا في الصميم، كردة فعل على تصرفاتنا الظالمة والمحتقرة تجاه شعوب الشرق الأوسط.

÷ ما رأيك بردة فعل الشعب الأميركي تجاه هذا الحدث المأساوي؟
} شعرنا بالرعب. وهذا بالضبط ما لم يكن علينا أن نقوم به. أصبحنا ذهانيين. بالغنا برد فعلنا وهذا ما جلب المتعة للعدو. معالجتنا الإعلامية كانت بدورها هيستيرية.

÷ بصفتك كاتب خيال علمي، هل تصورت شيئا مماثلا؟
} ولا للحظة واحدة. العديد من روائيي الخيال العلمي أمضوا حياتهم وهم يتخيلون مستقبلا قاتما، مليئا بالضجة، بالرعب، بالتنبؤ بكوارث. حتى أنا نفسي مع "فهرنهايت 451" رغبت في توصيف مستقبل مظلم. ومع ذلك لم نتخيل أبدا بأنه يمكن الاستفادة من طائرة لنجعلها أداة تدمير. في اللحظة التي شاهدت فيها الصور على التلفاز، قلت لنفسي: "يا إلهي، لقد فعلوا ذلك". إن كان يمكن للإرهابيين الذين أرسلهم بن لادن أن يقوموا بذلك لمرة، فهذا معناه أنه يمكنهم أن يقوموا بذلك بأدوات أخرى. تعلمت من 11 أيلول هذا، بأنه يمكن لأي فرد أن يصبح قنبلة. لا يمكننا أن نحمي أنفسنا من الكائنات البشرية. أي واحد، وفي أي لحظة، يمكنه أن يحول جسده ـ الذي هو رمز الحياة ـ إلى محرك رهيب للموت. ردة فعل الحكومة الأميركية كانت سيئة. كان عليها أن تركز على أسباب المشكلة الحقيقية بدلا من أن تشن حربا على الإرهاب. علينا أن نفكر بهذا في المستقبل وإلا...

÷ وإلا فماذا؟
} سنتحول جميعا إلى غبار (يضحك)

÷ يتيح لي هذا الجواب انتقالا جميلا. عنوان كتابك الأخير "من الغبار إلى الجسد"، الذي يبدو كعنوان توراتي، يتيح أملا ما للبشر في نهاية الأمر: بأن يولد مجددا من الغبار. كيف تخيلت هذا العنوان؟
} هكذا تصرفت "ربة الوحي" عندي (يبتسم).. هل تريد أن تعرف كلّ شيء؟ كل ما أكتبه يكتنفه السر. يأتيني الوحي، عند استيقاظي كل يوم، في السابعة صباحا. وهذا ما أسميه "مسرحي الصباحي الصغير". أشعر بأن هناك عددا كبيرا من الاستعارات يحوم حولي. لا أحلم حقا ولا أكون مستيقظا بشكل كامل. إنها حالة مدهشة: تشعر بالارتخاء ولا تحول أي شيء إلى ثقافة، وأحاول أن أستفيد من هذا العرض المسرحي للفكر. أحيانا ألتقط صورة أو فكرة طائرة قائلا لنفسي: "هذه فكرة جيدة، لأصنع منها شيئا". حينذاك أنهض من سريري وأبدأ بالكتابة. في الماضي، كنت أنزل إلى "كهفي" لأطبع ذلك على الآلة الكاتبة، لكن بعد أن أصبت بالشلل الدماغي، صرت أعمل في المنزل. أقوم بأشياء كثيرة عبر الهاتف. تساعدني ابنتي ألكسندرا. أملي عليها ألأقاصيص إذ ان إلقائي أفضل مما كان عليه قبل ثلاث سنوات. وبفضل الله ما زال رأسي يعمل. لكن عليّ أن أسير مع عصا، ولا يمكنني أن أطبع بشكل جيد بيدي اليمنى. لا بأس بذلك. تقوم فلسفتي على أمرين "إلى الجحيم معه" و"قم بما عليك أن تقوم به". وكي أعود إلى مسرحي الصباحي يمكنني أن أقول الآن: لم أعرف يوما كيف أمكنني تأليف كتاب مثل كتاب "تعليقات مريخية". في البداية، كتبت فقط سلسلة من الأقاصيص، ومن ثم في يوم، جاءتني فكرة تجميعها كلها بكونها مسلسلا فرض نفسه عليّ. هكذا ولدت "التعليقات المريخية".

÷ هل حدث الأمر عينه مع كتابك الأخير "من الغبار إلى الجسد"؟
} بالضبط. باستثناء أمر واحد. كتبت أولى القصص الست التي استللت منها هذه الرواية، منذ خمسين سنة. لم أكن أتوقع شيئا خاصا. من ثم تجمعت الأقاصيص في رأسي، بعد إصابتي بالمرض، قبل سنتين ونصف السنة. خلال هذه الفترة، وبينما كنت في المستشفى، استعدت الأقاصيص الستة وألصقتهم ببعضهم البعض على قماشة واحدة، لأكتب وصلات بين الواحدة والأخرى. بالضبط وفق الطريقة عينها التي استعملتها في كتاب "التعليقات المريخية" أو في رواية "نبيذ الصيف". حقيقة، لا أفكر بهذه الأشياء، إنها تأتي وحدها.

الشغف
÷ هل يمكن القول إنك تصورت هذه الرواية كلعبة "البازل"؟
} أجل كبازل فطري لا كتركيب ثقافي. في السيرورة الإبداعية ليس على الذكاء سوى أن يمنعنا من ارتكاب حماقات كبيرة. بالنسبة إليّ، تبدو الكتابة بمثابة نواة من الشغف تلفها صدفة من الذكاء. إن وضعنا المثقف في الوسط، فلن يقرأ أحد الرواية. ستصبح القصة ممتلئة بذاتها. حين نكتب، علينا أن نضع كل شيء على الطاولة، كل ما نشعر به، حتى الأشياء الغبية والسخيفة. ولا نروي القصة إلا كما يخرج كل شيء إلى الهواء الطلق، لكي نكتب كتابا حقيقيا. أعتقد أنه كما في الحياة وكما في الكتابة، علينا أن نتصرف بشغف: يرى الناس أنك شخص نزيه فيسامحونك.

÷ كتبت ما يقارب الثلاثين رواية و600 قصة. هل ثمة اختلاف في الطريقة ما بين بداياتك وبين الآن؟
} لا فرق بتاتا. الرغبة في الكتابة تنبثق دائما بالطريقة ذاتها، في لحظة شغف. امتلكت دائما حماسة مشتعلة للحياة. أكتب لأحتفي بالحياة. لم يتغير الأمر منذ ستين سنة. لدي حظ كبير.

÷ هل تخشى الموت؟
} كلنا نخشى الموت. هذا هو السبب الذي من أجله أحاول أن أنهي عملي. منذ المرض، الذي كاد يقتلني، كتبت أربعة كتب. هذا هو الجواب. إن بقيت من دون أي عمل، فستموت. في المستشفى، بعد الحادثة، لم أكن أستطيع تحريك الجانب الأيمن من جسدي. لا ذراعي ولا قدمي. بالكاد كنت أستطيع الكلام. ومع ذلك اتصلت بابنتي هاتفيا وقلت لها: "احضري لي الرواية التي كنت أعمل عليها". فبدأت بالعمل على "عن الغبار إلى الجسد"، وأنا ممدد على ظهري، ممليا جمل الفصول المختلفة على ابنتي بالهاتف. بالتأكيد لم أكن أنوي أن يحملني الموت معه.

الشعر في الجينات
÷ جلبت الأسلوب والشعر إلى قلب رواية "الخيال ـ العلمي"، لأن هذا النوع يعتمد على الأفكار. ألا تكمن فرادتك في طريقة الكتابة؟
عندي، الشعر هو أمر جينيّ. كل شيء جيني. ولدت لأكون ما أنا عليه. أعتقد أن عملنا في الحياة يتطلب بدقة أن نصبح ما نحن منذورون لأن نكون عليه. أذكر وأنا في التاسعة عشرة من عمري كنت أجبر نفسي على المشاركة في حفلات راقصة كنت أشعر فيها بالضجر الشديد. ذات مساء، تواريت بهدوء وانتهى بي الأمر بالدخول إلى غرفة أخرى. هناك وجدت آلة كتابة فبدأت بكتابة قصة بينما كان الآخرون يسخفون أنفسهم. هذا هو الأمر. علينا أن لا نترك أنفسنا نتسلى عبر الآخرين. الكثير من الأشياء يمكن لها أن تلهينا عن الحياة: النساء، الجنون، المخدرات، السرعة، الخ... لكن الأهم من ذلك أن نخصص الوقت كي نصبح أنفسنا.

÷ ماذا يعني لك إعادة طبع رائعتك "الوقائع المريخية" بعد نصف قرن من صدورها للمرة الأولى؟
} بفضل الله كتبت هذه القصص في براءة كاملة. هذه هي النصيحة التي قدمها لي صديقي فيديريكو فيلليني منذ عقود. كنت أمضيت معه أسبوعا رائعا في روما. خلال نزهاتنا نصحني بأن أستجيب للقول التالي: "لا تقل لي ما تقوم به؛ لا أريد أن اعرف". لم أجعل يوما عملي عملا ثقافيا. الثقافة هي أخطر أعداء الكاتب. إنها تقتل الإبداع. على الثقافة أن تكون فقط غلاف العمل الأدبي، لا قلبه! حين أكتب، أترك الإبداع ينفجر من دون أي حاجز ثقافي ومن ثم أعود وأجمع القطع المتناثرة.


ترجمة: اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...