هـل يشهـد العالـم عـودة الفكـرة الديـنـية؟
«سيكون للايمان الديني في القرن الـ21 الأهمية نفسها التي كانت للايديولوجيا السياسية في القرن السابق». كلمات قالها في العام 2008 قائد المشاركة البريطانية في حملة سميت بـ«الصليبية» لغزو العراق، طوني بلير. تصوّرٌ لمستقبل الحراك البشري يؤسس حتما لاستراتيجية لدى الدول والمجموعات الكبرى، للتأقلم مع السيناريو الجديد المفترض. لكن ما مدى صحة هذا التصور؟ هل تشكل الطفرة التي نشهدها لكل ما هو مرتبط بالفكرة الدينية منعطفا خاصا في تاريخنا؟ أهي طفرة للمدرسة الدينية بشكل عام، أم لنهج معيّن في التفاعل مع الفكرة الدينية؟
منذ التسعينيات، يتردد السؤال الآتي: هل تستعيد الفكرة الدينية مجدها السابق؟ المنطق المتداول في محيطنا العربي كان يركّز على سقوط التجربة القومية بموازاة انهيار الاتحاد السوفياتي، كسبب أساسي لعودة ما يسمى بـ«الاسلام السياسي». لكن واقع الحال اليوم، كما يبدو جليا أكثر من أي وقت مضى، أن عودة العنوان الديني إلى الميدان العام تحققت أيضا في المجتمعات الغربية التي لم تكن في المرحلة السابقة تعوّل على المفهوم القومي.
بل نلحظ أيضا أن العودة الدينية في المجتمعات الأوروبية والأميركية، ترتبط باسترجاع لمفاهيم القومية والتمايز الثقافي، كما يدلّ الخطاب السياسي للتيارات المسيحية المتشددة كالانجيليين الجدد في اميركا، متمثلا بحركة «حفل الشاي» وشعارات حملاتها في العمق الأميركي عن الهوية المسيحية للولايات المتحدة.
الثمانينيات وعودة الخطاب الديني
منذ القرن التاسع عشر والثقل الأكبر في الساحة الفكرية العالمية بين يدي مفاهيم العلمنة (secularization) على أنها عنوان الحداثة. ونرى ذلك في كتابات مؤسسي الفكر الاجتماعي، كإميل دوركهايم، كارل ماركس، ماكس ويبر، اوغوست كونت وهنري سان سيمون. كما نراه أيضا في كتابات العديد من المجددين العرب كعبد الرحمن الكواكبي، علي عبد الرازق، وصولا إلى نصر حامد أبو زيد بل حتى إلى «مفكر إسلامي» كمحمد أركون.
وحتى ثمانينيات القرن الماضي، لم يكن من المتوقع عودة الدين كقوة اجتماعية. ثم أتت «الثورتان» الخمينية والريغنية في ايران والولايات المتحدة. نتوقف عند هذين التحولين المتوازيين تاريخيا، دون غيرهما، لكونهما يحددان معالم مرحلة تحول في العلاقة بين مفهومي الدين والحكم.
ويقول المؤرخ الأميركي جون باتريك ديغنز في كتابه عن «رونالد ريغن: القدر، الحرية، وصناعة التاريخ»، إن «الأصولية المسيحية قامت بخطوتها نحو السياسة الأميركية للقرن العشرين، في الوقت نفسه الذي ترك ريغن منصبه كحاكم لكاليفورنيا في العام 1975»، وبدأ مسيرته الفعلية نحو الرئاسة.
ويضيف ديغنز أن «القسّ جيري فالويل، الذي حذّر من أن «الشيطان يجند قواه لتدمير أميركا»، حشد ما كان يسمى بالغالبية الأخلاقية لإنقاذ اميركا من التهديد الروحي. في العام 1988 قام القس بات روبرتسون بتأسيس التحالف المسيحي. كل أتباع هذه المجموعات، عملوا بدأب لضمان انتخاب ريغن في العام 1980».
ريغن البروتستانتي الذي استعمل مصطلح «الامبراطورية الشريرة» في خطاب 8 آذار 1983 لوصف الاتحاد السوفياتي، اتهم «الليبرالية» بالوقوف وراء «الانحراف» العلماني في أميركا. اقتصاديا وسياسيا، كان ريغن في الوقت نفسه من أول الرؤساء الأميركيين الذين أعطوا دفعا هائلا للرأسمالية المتوحشة، عبر إلغاء تنظيمات الأسواق، تخفيض الضرائب، والحدّ من الانفاق الحكومي. خلال عهده ارتفع الدين الأميركي من 997 مليار دولار إلى 2.85 تريليون دولار، وتسلّم الان غرينسبان الذي كان من أبرز المسؤولين عن الأزمة المالية في العام 2008، مسؤولية رئاسة الاحتياط الفدرالي الأميركي.
في الوقت نفسه، كانت الثورة الإسلامية في ايران تؤسس لهيكلية جديدة للمجتمع الايراني، تقع في جوهرها الفكرة الدينية. فمؤسس الثورة آية الله الخميني، وفي سلسلة ندوات حول الحكم الإسلامي ألقاها في النجف خلال السبعينيات وجمعت في ما بعد في كتاب بعنوان «الحكومة الإسلامية»، حدّد عددا من المفاهيم الأساسية لهذا الحكم منها أن قوانين المجتمع يجب أن تستمد من الشريعة التي تغطي كافة «الشؤون البشرية» و«تقدم التوجيه وتحدد المعايير» لكل «قضايا الحياة البشرية»، وبالتالي على الممسك بسلطة الحكم أن يكون فقيها في علوم الشريعة.
وعلى نقيض الريغنية التي كانت كما يقول ديغينز «تصور لنا أن المسيح مات على الصليب كي نستطيع أن نلاحق السعادة (الاستهلاكية)، لا من اجل خلاص أرواحنا»، كانت الخمينية تتجاهل تقريبا المفهوم الاقتصادي وتدين التركيز على مستوى الحياة بالمعنى المادي. وقد اشتهر الخميني برده على شكاوى من تراجع حاد في مستوى العيش في ايران بقوله «لا أصدق أن الهدف من كل هذه التضحيات كان الحصول على أسعار أدنى للبطيخ».
عند هذه النقطة التاريخية، كانت قوتان شديدتا التأثير على محيطهما الجغرافي والثقافي، في الشرق والغرب، تتحولان إلى مركزية الفكرة الدينية في المساحة العامة، وفي نظرية الحكم وتوجهاته.
وبعلاقة جدلية في الاتجاهين، بين «الإسلام السياسي» في ايران، ونظيره في العالم العربي، كانت التيارات الدعوية الإسلامية تتلقّف الراية من بين أيدي فشل الأنظمة القومية العربية في هزيمة اسرائيل وتحقيق العدالة الاجتماعية، وكان اغتيال أنور السادات على يد الجماعة الإسلامية في العام 1981 ذا رمزية كبيرة في هذا السياق.
تجدر الإشارة هنا إلى النموذج السعودي، الذي لا يعتبر دينيا في سياق البحث، لأنه نظام قبلي أبوي يضفي على شرعيته بعدا دينيا مرتبطا بسدانته للأماكن الإسلامية المقدسة وتحالفه مع المذهب الوهابي. وقد امسك بزمام الحكم في مرحلة كان الفكر الديني يتراجع خلالها حتى ضمن الإطار العربي.
الحريدية والبعد الديموغرافي
يقول الباحث الكندي اريك كوفمان في كتابه «هل يرث المتدينون الأرض؟»، إنه «يمكن ملاحظة نمو الانتماء الديني في العالم اليهودي، أكثر من أي مكان آخر في العالم... في نهاية الحرب العالمية الثانية كان الحريديم (اليهود المتشددون) يبدون كقطعة أثرية متلاشية. لكن دولة اسرائيل والشتات اليهودي تعاطفا مع مطالبهم. وفي الخمسينيات، بدأ الحريديم بعزل أنفسهم ديموغرافيا وبدأ تفوقهم في معدل الانجاب يظهر نسبة لليهود الآخرين... في بريطانيا، يشكلون 17 في المئة فقط من اليهود، لكنهم يشكلون 75 في المئة من الولادات اليهودية. وفي اسرائيل، انتقلوا من حوالي 3 في المئة من تلاميذ المدارس في العام 1950، إلى ثلث التلاميذ اليهود. وفي البلدين، ستكون الغالبية الساحقة لليهود من الحريديين في العام 2050».
هذا النمو المضطرد للمجتمع المتشدد في اسرائيل، أثقل الاقتصاد بعبء مساعدات مالية للمؤسسات الدينية، واعفاءات ضريبية، وتكاليف دراسية، كما بدأ يهدد الامن الداخلي الاسرائيلي، عبر ما نراه مثلا من حراك حريديّ يندد بقيادة السيارات في أيام السبت، ويطالب بامتيازات خاصة ضمن المجتمع اليهودي الاسرائيلي. ومن هذه النزعة القوية نحو التديّن، تولد أيضا تيارات «متشددة باعتدال» كما يسميها كوفمان، تتمثل باليمين السياسي الاسرائيلي «الذي يلهب الصراع مع الفلسطينيين».
ويتطرق كوفمان من خلال المثال الحريدي إلى البعد الديموغرافي لنمو التشدد الديني. فيقول إن «الديانات الابرهيمية الثلاث تشجع على التكاثر، وتمجد الأمومة والزواج والعائلة»، لكن إذا كان أبناء المتدينين سيعودون وينخرطون ضمن مجتمع ليبرالي، سيتلاشى جهد التكاثر الديني هذا. «هنا تدخل الأصولية إلى الصورة» يقول كوفمان موضحا ان الأصوليات الدينية، ولدت كردة فعل على «علمنة المجتمع» و«الديانات المعلمنة» في الغرب كـ«اليهودية الإصلاحية» و«الانغليكانية»، وعلى «تبني النخب الإسلامية لأفكار الاشتراكية والليبرالية خلال فترة الاستعمار وما بعده».
ردة الفعل هذه، أسست لجزر اجتماعية من التشدد الديني، تحمي حدودها فيما تضمن معدل تكاثر أكثر ارتفاعا من محيطها الاجتماعي. وهذه المجموعات، كالـ«أميش» والـ«مورمون» في أميركا، المتشددين اليهود، أو السلفيين، تتمتع «بحدود جماعية قوية تحافظ على انتماء الأبناء عبر حدّ الزيجات من خارج المجموعة، ومنح صفة رسولية كونية لمعتقداتها كي تبرر تضحيات أفرادها في التخلي عن نمط الحياة الليبرالي».
ولا يخفى على أحد ان «الحداثة أعطتهم القدرة على بناء عالم مواز للمسار السائد، بمدارسهم وجامعاتهم، إعلامهم ومنتجعاتهم الخاصة، وحتى مراكز التسوق والفنادق». كما أن العولمة نفسها بأدواتها المذهلة، التي أعطت للدولة الحديثة فعالية هائلة بالنسبة للامبراطوريات السابقة، قدمت للمجموعات الدينية المغلقة أدوات الدعوة والتبشير، والنطاق الجغرافي الواسع، واللوجستيات المختلفة، من الكتيبات إلى العبوات الناسفة.
الليبرالية والدين
في دراسة أصدرتها جامعة «كامبريدج» في العام 2004، أظهر الباحثان بيبا نوريس ورونالد انغلهارت اعتمادا على كميات ضخمة من المعطيات العالمية، أن «التدين يتراجع في المجتمعات، مع تحسن مستويات التربية والعدالة الاجتماعية والدخل». ويدفع ذلك بعدد من المفكرين إلى الاعتبار أن نمو الفكرة الدينية مرتبط بتدني الاداء الحكومي في تطوير المجتمعات، ويتجسد بالدرجة الاولى في الدول الفقيرة والنامية. كما يرى البعض امثال فرانسيس فوكوياما أو ماكس ويبر أن الدول النامية لا زالت تعيش «في التاريخ»، أو في حالة من «السحر»، تجعلها ضحية الأساطير بطريقة تخطتها المجتمعات الغربية.
لكن نمو الفكر الديني في أميركا واوروبا في الفترة الأخيرة، يعطي إشارات مناقضة لهذه الطروحات. إشارات يمكن فهمها من خلال ما يوضحه عالم الاجتماع الأميركي دانييل بيل في كتابه «التناقضات الثقافية للرأسمالية» (1976). ويشير بيل إلى التناقض الذي تحتويه الرأسمالية الليبرالية بين الفردية الثقافية ومتطلبات النظام الجماعي.
تشكل هذه الفردية الليبرالية منصة تسمح بتبني مواقف متشددة ازاء الآخر، كما تفكك البنية الثقافية للمجتمع ما يؤدي إلى تحوله لكتل ومجموعات تتمتع بديناميات خاصة بها. وهنا يبرز العنصر الديموغرافي الذي يشدد عليه كوفمان في كتابه. وفي هذا السياق، طوّر العالمان الديموغرافيان رون لستايغ وديرك فان دي كا، نظرية «الانتقال الديموغرافي الثاني» حيث «تحدد القيم لا الظروف المادية معدلات الخصوبة» في إشارة إلى الثقافة الفردية التي تؤدي في النهاية إلى انخفاض معدلات الانجاب، مقابل محافظة المجموعات المتدينة على معدلات خصوبة مرتفعة تسمح لها بالحفاظ على مسار ديموغرافي معاكس تماما للتراجع العام.
يرفض كوفمان إذن أطروحة صاموئيل هنتغنتون وزملائه المحافظين الجدد عن صراع حضارات بين المسلمين والمسيحيين، ويقدم طرحا مختلفا يركّز على مشهد الصراع الديموغرافي بين المتدينين والعلمانيين في مختلف الدوائر الحضارية والدينية بالمعنى الثقافي.
ولكن، في مقابل المشهد النامي للفكرة الدينية بشكلها المتشدد والدوغمائي، نلحظ أيضا على المستوى العالمي نزعة من طبيعة اخرى نحو «الروحانيات»، مثل مدارس الnew age، وممارسة اليوغا، والبوذية المنتشرة في الغرب. هذه النزعات لا تشكل تكتلات ديموغرافية ولا تتمتع بنفس العلاقة مع الآخر التي تقوم عليها الحريدية أو السلفية أو الانجيلية والمجموعات المسيحية المتطرفة، لكنها تشكل أيضا استنهاضا للفكرة الدينية على حساب النهج العلماني العقلاني.
ويميز مؤسس المنهج التفكيكي في الفلسفة الفرنسي جاك دريدا، مستعيدا تصنيف الفيلسوف الألماني امانويل كانت، بين «دين الشعائر»، الذي يبحث عن إرضاء الرب، و«الدين الأخلاقي» أو «الدين المفكّر». وإذا أخرجنا هذه المقولة من مركزيتها الأوروبية، نستطيع أن نجد هذه الازدواجية داخل كل المنظومات الدينية عالميا. فعند الصوفية، أو العرفان الشيعي مثلا، تتحول «عبادة» الله إلى نوع من البحث المعرفي، في إطار ذي طابع فردي طاغ، كما أن القرون الأولى من المسيحية كانت تعجّ بمدارس الغنوصية وغيرها من التي تبنت نهجا تصالحيا بين الفكرة الدينية والنهج الفلسفي. وفي المقابل، تحفل الديانات الابراهيمية بالقراءات التي تتعاطى مع المفهوم الإلهي كمصدر للسلطة فحسب، ما يحولها فكريا إلى أصوليات تتماهى فيها الدوغما الدينية مع الهوية الاجتماعية.
عودة الفكرة الدينية، مرتبطة إذن بتناقضات يحملها النظام العالمي وبفشل نماذج الدول القومية في إطار الدول النامية بشكل خاص. وتتمتع بدينامية ديموغرافية متفوقة، ناتجة بشكل أساسي عن ليبرالية تشجع الفردية ولا تسمح لنفسها باتخاذ موقف جذري من الأصوليات الدينية. أمام هذا الواقع، هناك من يدعو مثل رئيس وزراء بريطانيا الذي يواجه حاليا معضلة في جوهرها التشرذم الاجتماعي، إلى «ليبرالية أكثر عضلية». لكن هذه الدعوة تتناقض مع مسلمات الحرية والتسامح التي تمجدها الليبرالية الثقافية.
الحلّ يبدو غائبا حتى اللحظة، لكن مراجعة النظريات الاجتماعية المولودة في كنف الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر، أصبحت ضرورية في ما يتعلق بحتمية تغلب الحداثة العلمانية على الفكرة الدينية.
مازن السيد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد