الخريجات الجامعيات: عندما يتحول النجاح إلى عبء
" على قلق كأن الريح تحتي " هكذا تصف " ميساء " طالبة ماجستير إعلام في جامعة دمشق حالتها عندما تتحدث عن نفسها وكيف ألقت بها الأيام بين الإعلانات المبوبة عن فرص العمل وغرف الانتظار لدى المؤسسات الإعلامية وغير الإعلامية .
ورغم معدلها البالغ 69% وتجاوزها السنة التمهيدية في درجة الماجستير إلا أنها لم تجد حتى الآن رواجاً لشهادتها في سوق العمل فالكل" يطلب خبرة " أين عملت وما هو آخر عمل لك وكأن العمل يولد مع الإنسان .
قصة ميساء الفتاة الناجحة بالمعنى الأكاديمي ليست شخصية أو فردية بل إن الكثيرات من قريناتها لديهن قصص مشابهة تصلح جميعها للنشر .... فالفتاة تنهي دراستها الجامعية لتقف في طابور البحث عن العمل الطويل قابضة على أوراق ممهورة بأختام رسمية تحمل شهادات ( ICDL) ( توب توفل ) والشهادات الجامعية من كافة الاختصاصات التي من المقترض أن ترفد سوق العمل بالكفاءات المطلوبة و لتتحول من النجاح إلى الفشل ويبدأ المجتمع يتململ منها بعد أن كان يفخر بها عندما كانت طالبة .
قسوة الغربة
وتشهد حياة هؤلاء الفتيات تحولاً خطيراً يطرأ بعد تخرجهن من الجامعة يتمثل بفرض نوع من الغربة عليهن وخاصة أولئك القادمات من الريف إلى المدينة، فندرة العمل في الريف تدفع الفتاة للبحث عنه في المدينة لتبدأ قصة معاناة من نوع مختلف أين سأعيش ومع من سأتعامل وكيف سأتدبر شؤوني سواء وجدت عملاً أو لم أجد .
تقول ميساء ... بعد خروجي من المدينة الجامعية التي أمضيت فيها أربع سنوات وجدت نفسي في مدينة دمشق الرائعة والمخيفة بنفس الوقت، فكل شيء جديد علي الناس والشوارع وطريقة تدبير الأمور وبدأت أقول لنفسي كيف لي أن أجد فرصتي في مدينة يتنافس على العيش فيها الملايين، وأنا الفتاة الريفية التي تركت للتو ذراع أمها الذي تأبطته منذ ولادتها متسائلة ألا تشفع لي شهادتي ومثابرتي بأن أعمل لأعيش خارج وصاية أحد و أخفف العبء عن أهلي الذين لم يقصروا يوماً .
بين السلب والإيجاب
يقول الدكتور " نبيل حليلو "أستاذ في قسم علم الاجتماع – جامعة قاصدي مرباح – الجزائر ، إن المجتمعات العربية تتشابه في أساليب الحياة، وظاهرة اغتراب الفتاة عن أهلها موجودة بكثرة، ولها آثار سلبية عديدة، فحين يغترب المرء يبدأ يسأل نفسه عن السبب الذي جعله في بلاد الغربة ، ويشعر بالوحدة والانعزال والتقوقع، فيصاب بالاكتئاب والقلق، هذه العوامل لا تساهم في عملية الاندماج في الحياة الجديدة بسهولة لأنها تتطلب أياماً وقد تكون شهوراً وسنوات ما يؤثر على الجانب الاجتماعي، حيث يصبح من الصعب على الفتاة التكيف مع المجتمع الجديد والدخول في علاقات اجتماعية واسعة، إلا أن للاغتراب مزايا عديدة فأول ما تجنيه الفتاة هو الشعور بالاستقلالية، فهي تتخذ قراراتها اليومية بنفسها، فلا تجد من يدللها أو يعد لها طعامها أو يفكر بها، فالغربة تقوم بصقل شخصيتها لأن فراق الأهل يعود على الصبر وتحمل المشاق من أجل الحفاظ على قيم عائلتها ومجتمعها بحيث تبقى كما يقال " أخت رجال " الأمر الذي يجعل المجتمع يحترمها ويقدرها أكثر .
فتيات
تقول ( س.ع )، 23 سنة، من محافظة طرطوس، تخرجت منذ عام من كلية الآداب - قسم الإعلام - جامعة دمشق وطبعا كنت على علم مسبق أنني لن أحصل على عمل في مجال دراستي، وبمساعدة أحد الأصدقاء وجدت عملا كمحاسبة " كاشيرة " في سوبر ماركت " في دمشق " لأنني مضطرة لأن أعيل نفسي أولاً وعائلتي ثانيا، ولكن معاناتي لم تنته هنا، فبعد تخرجي خرجت من المدينة الجامعية وكنت مضطرة أن أبحث عن مسكن فاستأجرت غرفة لتزيد مصاريفي رغم ضآلة الراتب، هذا بالإضافة إلى أنني رغم ثقتي بنفسي وبما أفعل إلا أنني مضطرة للتقيد بمواعيد دخولي وخروجي من المنزل نتيجة القيود التي يفرضها علي المجتمع الذي أعيش فيه، وهذا ليس كل شيء بالتأكيد فالغربة مرة، فكيف تتخيل أن تكون حياتك في مجتمع مغاير لمجتمعك، وكيف لك أن تتحمل بعدك عن أهلك واخوتك وأصدقائك وشوقك لرؤيتهم في وقت لا تستطيع أن تراهم به، فضلاً عن أن حياتك الاجتماعية تصبح شبه معدومة ليس فقط لأنه ليس لديك الوقت بل لأنك يجب ألا تثق بمجتمع أنت غريب فيه، ورغم ذلك فأنت مضطر للبقاء لأنه لا يوجد أمامك بديل آخر بسبب ندرة وحتى انعدام فرص العمل في الريف .
تحولات
تقول د . عائشة ناصر – المدرسة في قسم الإرشاد النفسي – كلية التربية –جامعة دمشق-: إن الفتاة عندما تحس بانعدام المعنى أو عدم وجود أهداف واضحة تسعى للوصول إليها قد تفشل عندما لا تتوفر الفرصة لأن الفراغ يقتل كل قدراتها الحالية حتى لو كانت موجودة، فعدم وجود الهدف يدمر الإحساس بالأمان .. وهذا يقتل الأمل الذي يعطي طاقة لبذل الجهد المطلوب لتحقيق الأهداف، ما يجعل الفتاة عرضة لأمراض نفسية خطيرة كالقلق والاكتئاب ويمكن أن تتحول إلى بوادر لأمراض أخرى مثل الوساوس القهرية والهيستيريا والعدوان والإحباط.
وتضيف د. عائشة: نحن هنا نتحدث عن حالتين، أولهما تتضمن الفتاة المحصنة نفسياً التي تمتلك درجة مناسبة من تقدير الذات وثقة بنفسها ولديها أهداف واضحة وحاجتها للحب مشبعة بدرجة مناسبة، الأمر الذي يجعل تأثير تلك الفتاة إيجابياً على المجتمع سواء الوافدة منه أو الوسط الجديد الذي تعيش فيه .
وأما الحالة الثانية إذا كانت شخصية الفتاة هشة، غير محصنة نفسياً وبالتالي تنهار وتكون عرضة لكل المخاطر .
قتل الأحلام
وبكلمات معبرة تروي ( ر. م ) ، 26 سنة، خريجة علم اجتماع وموظفة في شركة خاصة للأدوية، كيف أنها أتت من محافظة حمص للبحث عن عمل منذ ما يقرب عامين ونصف بسبب الظروف التي تعيشها عائلتها بعد موت الأب وهي البنت الأكبر لدى عائلتها، والجميل في قصة (ر. م) أن الظروف الصعبة التي تعيشها وقسوة المدينة وخاصة على البنات الوحيدات اللاتي يعشن بعيداً عن أسرهن لم تنل من بساطتها، فهي لا تزال تلك الفتاة التي تسعى لإعالة أختيها وأمها وتسكن في شقة مع بعض الفتيات من محافظات أخرى جئن للعمل أو الدراسة في العاصمة، وتعود ( ر. م ) إلى منزل أهلها مرة كل أسبوعين لتعطي لأمها الجزء الأكبر من راتبها ويظل الباقي معها لدفع إيجار الشقة التي تسكن فيها و لمصاريفها اليومية، وتضيف ( ر. م )، أتمنى بعد حصولي على وظيفة ثابتة في محافظتي الأم حيث أهلي أن أكمل حلمي بالدراسات العليا الذي اضطررت للتخلي عنه .
ضريبة
تقول ( ن . ك ) – 37 سنة – خريجة قسم الإعلام – جامعة دمشق - وموظفة في مؤسسة حكومية: إن الغربة سلاح ذو حدين، فهي من جهة أعطتني أشياء لم تكن لدي كالقوة والثقة بالنفس والاعتماد على الذات إضافة إلى أنها زادت خبراتي بالحياة، ومن جهة أخرى حرمتني الاستقرار في حياتي، فأنا أستأجر منزلاً منذ ثماني سنوات ما جعلني عرضة لأقوال الناس التي لا ترحم حتى فقدت الثقة بكل من حولي.
من نوع آخر
تقول ( ع . ج ) – 26 سنة – خريجة أدب فرنسي – محافظة اللاذقية، تقدمت لإحدى المسابقات وحين سماع خبر نجاحي فرحت ولكن الفرحة لم تكتمل لأتفاجأ بتعييني في محافظة ريف دمشق – عين ترما ، قادمة إلى محافظة أخرى لا أعرف فيها أحدا رغم أنني وحيدة لأهلي، لتكون المرة الأولى التي أشعر فيها بالوحدة في حياتي، حتى فقدت الإحساس بالأمان ، وكنت مضطرة لاستئجار مسكن ما زاد من مصاريفي اليومية حتى بت أعتمد على أهلي لسد العجز، عدا عن ذلك فأنا أقضي ما يقارب ساعتين يوميا حتى أصل للمدرسة ، واليوم وقد أمضيت أربع سنوات بالتعليم أتمنى من المعنيين أن يتم تخفيف المدة ، لأن مدة خمس سنوات مدة طويلة جدا وتتسبب بمشكلات اجتماعية لأن كثيراً من الفتيات اضطررن للزواج ممن لا يرغبن حتى لا يبتعدن عن أهلهن مما زاد حالات الطلاق في المجتمع، وعلى الصعيد الشخصي ورغم الكثير من عروض الزواج إلا أنني ما زلت متمسكة بتحقيق حلمي الذي طالما سعيت إليه بأن أصبح مدرسة أدب فرنسي وأختار الرجل الذي يحقق لي أحلامي .
المطلوب التكيف
يقول د . بلال عرابي المدرس في قسم علم الاجتماع –جامعة دمشق: إن أحد أسباب بقاء الفتاة في الغربة بعد تخرجها هو البحث عن العمل أو إكمالها لتعليمها وهو موجود بكثرة في مجتمعاتنا حتى غدونا نطلق على هذه الظاهرة بالهجرة من الريف إلى المدينة، وهنا على الفتاة المغتربة أن تحافظ على علاقات متوازنة مع الجيران والأهل وأيضاً المحافظة على عادات المرأة الأصلية لكي تستطيع تدبر أمورها في الفترة التي تكون فيها مغتربة عن أهلها .
ويضيف د . بلال قائلا : في الإحصاءات وجدنا أن أحد أسباب هجرة المرأة الأساسية هو زواجها، فعندما يتم زواجها في مدينة أخرى فستتلاءم ليس مع المدينة ككل وإنما أيضاً مع عادات وصفات زوجها وأهل زوجها وهكذا يحدث ما ندعوه في علم الاجتماع بالتكيف الاجتماعي، أي قدرة المرأة على الحياة في ظروف جديدة تناسبها وتناسب الوسط الجديد الذي دخلت إليه ويجعلها تقبل منه العادات والتقاليد الأقرب إليها .
توليد فرص عمل
من خلال استماعنا لآراء العديد من الفتيات المغتربات عن أهلهن تبين لنا أن أغلبهن هاجر بحثاً عن العمل بشكل أساس، حتى إن جميعهن تمنين لو تتاح لهن تلك الفرصة في مدنهن وقراهن ، وفي سبيل إضاءة الطريق بعض الشيء أمام تلك الفتيات بشكل خاص والشباب عامة ، التقينا بعض المعنيين في الهيئة العامة للتشغيل وتنمية المشروعات أو ما كان يدعى هيئة مكافحة البطالة سابقاً ، بغرض تعريفهم بإحدى الطرق للحصول على فرصة عمل مناسبة لهم ضمن محافظاتهم .
يقول الأستاذ أحمد خالد شبيب المدير المالي ومدير التدريب في الهيئة ، إن من أهداف ومهام الهيئة العامة للتشغيل وتنمية المشروعات توليد فرص عمل جديدة للباحثين عن عمل وخاصة الشباب عن طريق تفعيل مناخ التشغيل وتنشيطه ، ولتحقيق ذلك سعت الهيئة إلى استحداث عدد من البرامج أهمها :
> برنامج تدريب الخريجين وطالبي العمل.
> برنامج التدريب للتشغيل المضمون.
> برنامج تدريب رواد الأعمال، و هناك برنامجاً آخر ينبثق عن برنامج تدريب رواد الأعمال وهو برنامج تنمية المشروعات الذي يهدف إلى توليد فرص عمل حقيقية، من خلال مساعدة رواد الأعمال في تأسيس مشروعات بالغة الصغر و الصغيرة والمتوسطة خاصة بهم ، تعتمد على معايير اقتصاد السوق وذات جدوى اقتصادية، كما يهدف هذا البرنامج إلى تطوير المشروعات القائمة التي بحاجة إلى دعم أو توسعة وتطوير، كل ذلك بهدف المساهمة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوليد فرص عمل جديدة، ويضيف أ . أحمد خليل أن معظم دول العالم تيقن أن مثل هذه المشاريع تعد أفضل طريقة لتوليد فرص عمل جديدة، فمثلا المشروعات الصغيرة تتميز بعدم حاجتها لخبرات هائلة أو رأس مال كبير، و بإمكانها التموضع في أي مكان فضلاً عن أن متطلباتها بسيطة. وختاماً: نقول: بأن هذه القضية التي تتنوع تجلياتها بين الاقتصادي والاجتماعي والنفسي هي بالدرجة الأولى قضية وطنية ولذلك فإن الحل يجب أن يكون كذلك آخذا بعين الاعتبار بأن الفتيات لسن إلا طاقات ناضجة ولكنها مهدورة بشكل أو بآخر ولا بد من وجود مسؤولية اجتماعية تعطيهن حقوقهن وترفع عنهن الحيف وتخرجهن من متاهات الوحدة والغربة التي فرضت عليهن ولم يخترنها .
عفراء كوسا
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد