وفرّ على نفسه وعلى الحكومة ترك المدرسة وصار معلم قطايف
الجمل ـ حلب ـ باسل ديوب : لا يجد "يوسف ملقي" 14 سنة الوقت الكافي لكي يلتقي أصدقائه و يعيش معهم شيئاً من الطفولة التي لا زالت تسم محياه وصوته بنعومة تفرض نفسها على حضوره اللطيف والبريء، كأن يلعبوا الكرة في الزقاق أو في المدرسة القريبة بعد انصراف التلاميذ، أو يشاهدوا فيلماً في دار للسينما، أو أن يقفوا أمام مدرسة البنات وهو أضعف الإيمان.
يوسف لا يعرف ماذا يعني انقلاب رغم أنه بانقلاب أبويٌ ـ ليس عسكري بكل تأكيد ـ انتقل الى عالم الرجولة وأعبائها من عالم طفولة تبعثرت مفرداتها و عجنت مع أول وجبة كنافة ألقى بطحينها بنفسه الى العجانة .
فخلال سنة واحدة بعد تركه المدرسة نادماً ومتحسراً على فرص اللعب واللهو التي كانت توفرها له ترفع يوسف إلى أعلى رتبة، وأصبح معلماً على سبعة من العمال في محل أبيه،الكائن في محلة باب الجنان في حلب . الأمر ليس سهلاً فعصا المعلمة الخشبية تحولت هنا إلى صفعة لا بد منها من كف أبيه الحنون!
إنها مفردات العمل وتنشئة "الأجير" ، كل خطأ له عقوبة، لكن يوسف لديه من النباهة ما يكفي، فحتى تعلم كيفية صب القطايف على الصاج لم يستهلك سوى كمية قليلة من العجين السائل و يقول " خلال أسبوعين من المحاولة المرتبكة تمكنت من التحكم بإصبعي الذي يمرر العجين . في البداية كان القطايف متفاوتة في الحجم ولكن الآن تقريباً هي واحدة "
بعد شهور وعلى " الغميضة " أصبح يوسف يملأ الصاجة كلها بقطايف متساوية تماماً، هذا أسعد والده كثيراً وجعله يثق بمهارة ابنه .
وفي الشتاء التالي أصبح يوسف " معلم " " تحت يده " سبعة عمال على الأقل وبإمكان والده التغيب عن العمل بكل راحة بال .
فبإمكان يوسف إدارة شوؤن المحل بإقتدار، يصدر الأوامر والتعليمات، يخلط العجنة ثم يطلب من احدهم المتابعة، يتابع مراقبة العامل على آلة الكنافة، يأمره بالتوقف عن الإنتاج فالكمية كافية للطلب الحالي، ويتنقل من زاوية إلى أخرى في المحل الضيق ومستودعه، وعندما يحس بالتعب يبادر بنفسه إلى وضع إبريق الشاب المسود على الصاج . أما في الصيف فالعمل يتراجع ينقص عدد العمال ويعمل يوسف بيديه توفيراً لأجور عامل إضافي .
يحب الشاي كثيراً ، لم ينبت شارباه بعد, يعمل أكثر من 10 ساعات يومياً على الأقل
يقول: " أبقى في المحل من الصباح وحتى الثانية عشرة ليلاً أحياناً وأحياناً أنصرف بعد المساء لأذهب مع رفاقي إلى المطعم، أو إلى السيران"
يوسف يحب الطعام لكنه ليس شرهاً أبداًُ ، يحب أن يتناول أشياء لا تقدمها والدته في المنزل ، هذه رفاهيته الوحيدة بعد أسبوع عمل مرهق ، لا يفضل مشاهدة التلفاز في الأيام العادية يعود مرهقاً بعد العاشرة ليلاً يستحم ويتناول عشاءه وينام ، لكن في يوم الجمعة وبعد الصلاة يتنقل مع أصدقائه من مطعم إلى آخرهذا شكل الرفاهية الوحيد تناول الطعام اللذيذ .
هو غير نادم على ترك المدرسة إلا من اجل اللعب الذي كان ممكناً وسهلاً أما الآن فالعمل يجعله منهكاً وغير قادر على اللعب كما أن تحوله إلى " معلم " جعله يتباهى أمام أقرانه وليس من اللائق به اللعب واللهو كمان يفعل معهم سابقاً، اليوم لم يعد يدعوهم إلى لعبة الكرة بل يدعوهم إلى المطعم " ما رح يطلع معي شي ما بحب الدروس ، في المحل فوراً تعلمت الشغل وبس خلص عسكرية فيني أفتح محل "
يوسف يخطط للمستقبل ورغم أن شارباه لم ينبتا بعد فهو يفكر في الخدمة العسكرية وما بعد الخدمة ، لا يقبل أيضاً اعتبار طفولته مهدورة فهو يصر على أنه " شب" وسيصبح معلماً في مهنته ، ولو بقي في المدرسة لما تعلمها، في سورية لا تتوفر أرقام حقيقية عن عمالة الأطفال ، لكن حسب ما ورد في بحث (البطالة والفقر في سورية) للدكتور نبيل مرزوق فإن العاملين من الشريحة العمرية من 10 – 14 سنة يشكلون حوالي 3 % من قوة العمل إجمالياً وترتفع في الريف لتصل إلى 4.2 % .
يوسف ليس فقيراً لكن روحه "تُستفقر" إذ يوضع في مكان ليس المكان الملائم لسنه ، والأمر لا يتعلق فقط بتدهور آفاق المستقبل للمتعلمين في بلدنا الأمر الذي يدفع الأسر للزج بأطفالها في سوق العمل والمهن مبكراً ، وإنما يتعلق بالمستوى الثقافي لهذه الأسر الميسورة نسبياً،
أسرة يوسف ليست بحاجة إلى عمله وتعلم المهنة البسيطة التي اختارها الأب لا تبرر حرمان الطفل من الحد الأدنى من التعليم .
يوسف لا يعي هذا الأمر ، وتكيف معه لا بل هو سعيد به ، وعلى ما يبدو لا تعنيه أيضاً مديريات التربية المكلفة بتطبيق إلزامية التعليم الأساسي .
الجمل
إضافة تعليق جديد