الحاجة إلى تفكيك اليقينيات
تطرح التطورات التي تعصف منذ عقود بالمجتمعات العربية والاسلامية جملة قضايا مصيرية تتصل بالحراك الداخلي داخلها والتناقضات المعبّر عنها في توترات وانقسامات اهلية، او في علاقة هذه المجتمعات بالعالم، في ظل صورة سلبية يحملها العالم عن هذه المجتمعات تصل ذروتها الى تحميل الاسلام، دينا وممارسة، مسؤوليات عن الفوضى الحاصلة في اكثر من منطقة في العالم من خلال الاعمال الارهابية التي تعتنقها بعض الحركات الاصولية الاسلامية. اذا كانت النظرة الى الاسلام والمسلمين في الغرب ليست موضوعية من حيث الخلط بين الدين الاسلامي، قيما ومبادئ انسانية، وبين استخدام هذا الدين في الارهاب، الا ان ما يحصل على هذا الصعيد يطرح على المجتمعات الاسلامية التوقف امام الاسباب الكامنة وراء هذه الوجهة التي تسير عليها المجتمعات الاسلامية، والتوقف امام العوامل الكامنة في حجز هذه المجتمعات عن التقدم. لعل تجربة المجتمعات المسيحية في الغرب تقدم الجواب في هذا المجال: انه الاصلاح الديني الذي انخرطت فيه اوروبا والتفكيك الذي مارسته الفلسفة هناك للمقولات الدينية، مما ساهم في الخروج من الانغلاقات التي كانت الكنيسة قد حجزت المسيحية في سجونها. الاسلام في تاريخه، وفي استخدامه السياسي، وفي الفقه المتولد عنه والواقف عند الف سنة من الماضي من دون اي تجديد، هذا الاسلام، يجد نفسه اليوم امام المرحلة اياها التي عاشتها اوروبا في القرون الوسطى، وامكنها ان تضع المسيحية على محك التفكيك. يحتاج الاسلام الى هذا التفكيك اليوم والتمييز بين ما يقع حقا ضمن الدين، وما يتصل من استخدامات لهذا الدين في الصراعات السياسية والاجتماعية. يقدم الكاتب السوري هاشم صالح، في كتابه "الانغلاق اللاهوتي في الاسلام"، الصادر عن "دار الطليعة" و"رابطة العقلانيين العرب"، مساهمة في هذا المجال من خلال استعراض كتابات لكتّاب عرب واوروبيين دخلت صلب الموضوع، وهي كتابات نشرت باللغة الفرنسية.
يعطي صالح لمحة عن المسار الذي سلكه تفكيك اللاهوت المسيحي، فيبدأ من ديكارت الذي شكّك في الافكار واليقينيات السائدة في عصره وغربلها واعتبر الكثير منها باطلة حتى ولو كان هناك الكثير من المؤمنين بها. اما ليبنيتز فذهب الى ان الفهم الحقيقي للدين هو الذي ينطلق من قوانين المنطق والسببية ولا ينتهكهما كما يقوم بذلك التدين التقليدي المستند الى الغيبيات والخرافات. في السياق نفسه، ذهب نيتشه الى الكشف عن جذور الانظمة الفلسفية السابقة بهدف اثبات تاريخيتها ونسبيتها، تالياً نزع الصفة الاطلاقية او الهيبة التقديسية عنها. على المنوال نفسه سار مفكرو التنوير وفلاسفة عصر الحداثة وما يطلق عليه "ما بعد الحداثة". لعب هؤلاء المفكرون دورا اساسيا في تكريس اتجاه العلمنة من خلال نزع الطابع اللاهوتي عن الانظمة الفلسفية القائمة.
يحمل الاسلام موروثات تحتاج الى إعمال مبضع التفكيك فيها، من التصورات عن كيفية تشكّل المصحف وكتب الحديث والسيرة النبوية وشخصيات الائمة، وصولا الى مجمل التراث والعقل المتكوّن حوله. فالكاتب المغربي الاصل عبد الرحيم لمشيشي، المقيم في الغرب، يولي اهتماما لتفكيك مفهوم الجهاد في الاسلام، منبهاً الى ضرورة تحاشي القراءة الاختزالية واللاتاريخية واللازمنية لهذا الدين، وهي القراءة التي ترى ان سلوك المسلمين محدد مسبقا من قبل دينهم، من دون ان تتدخل عوامل اخرى في هذا السلوك. يشير لمشيشي الى تبلور المفهوم المتعصب للجهاد على يد احمد بن تيمية الذي يمثل اليوم المرجعية العليا لكل الاصولية الراديكالية الساعية، من ضمن اهدافها، الى محاربة الغرب وقلب الانظمة العربية القائمة بحجة انها مرتدة عن الاسلام، والسعي في المقابل الى اعادة الامجاد الاسلامية السابقة. لكنه يرى ان هذه الاصوليات، تتغذى من تربة الحرمان والاذلال التي يعيشها العرب والمسلمون اليوم. لا ينكر لمشيشي ان القرآن يحمل موقفا ازدواجيا غامضا في شأن الجهاد، فهو يتحدث عنه صراحة ويقول انه من اصل 6235 آية يحويها القرآن، هناك حوالى 200 آية تتعرض بشكل مباشر او غير مباشر الى موضوع الجهاد او القتال. المعنى الذي تتخذه كلمة "جهاد" في القرآن، تبدو تنفيذا لأمر صادر من الله نفسه، يحثّ فيه المؤمنين على الانخراط او القتال في سبيل الله. يكثر القرآن من المواعظ الداعية الى السلام والرحمة، ثم ينتقل فجأة الى الدعوات البالغة العنف. لذا يشير الى اهمية قراءة آيات العنف في سياقها التاريخي المتصل آنذاك بالحروب التي كان النبي منخرطا فيها ضد القرشيين.
تحكم كتابات التونسي عبد الوهاب المؤدب مقولة ان "الاسلام مريض بالسلفية المتزمتة"، ويركز على سبل الشفاء من هذا التزمت. يؤكد المؤدب ان نقطة الانطلاق تكمن في تعيين الاسباب الداخلية لهذا المرض قبل الهروب الى الاسباب الخارجية. فمرض الاسلام ليس حديث العهد بل يضرب بجذوره في اعماق التاريخ، ويعود الى احمد بن حنبل الذي اسّس مذهبا متزمتا يرفض فيه التأويل والاجتهاد. وكرّس ابن تيمية السير على هذا النهج فركّز على مقولة الجهاد. يحدد المؤدب مفهوم الانغلاق في الاسلام، فيراه في كيفية تقديمه لنفسه في وصفه الدين النهائي والاخير الذي يشكل الحق المطلق، وفي كون النبي محمد خاتم الانبياء والناسخ لهم بشكل من الاشكال. نجم عن هذا الانغلاق انسداد تاريخي يصعب مواجهته اليوم من دون القراءة العلمية والتاريخية للقرآن، "فالشيء الذي يسجن القرآن في خصوصيته السلبية ليس معناه، وانما مكانته التي تخلع عليه القداسة المطلقة من طريق ربط حرفيته بتجسد الكلمة الالهية فيه، او من طريق المطابقة بين كلماته وكلام الله ذاته". هذا الاصرار على ان القرآن يمثل كلام الله الحرفي والازلي غير المخلوق، هو التابو الاكبر والمحرك الاعظم الذي يقول المؤدب بضرورة تحطيمه وكسره كشرط مسبق، للتوصل الى تأويل جديد للقرآن والانخراط في البحث التاريخي عن كيفية تشكله كنص لغوي مكتوب.
على المنوال نفسه نسج الكاتب التونسي عياض بن عاشور في كتاب له بعنوان "اركيولوجيا الاسلام السني ام تفكيك الاصولية السنية؟"، فيشير الى تقديم الارثوذكسية السنية لنفسها في كونها تملك الحقيقة المطلقة للدين، وهي العقيدة الخالدة والابدية التي تقف فوق الزمان والمكان ويستحيل ان تغيرها الظروف والتطورات التاريخية، وهي "صالحة لكل زمان ومكان من دون اي تعديل او تغيير حتى يرث الله الارض ومن عليها". لكن هذه الارثوذكسية هي إنتاج احداث سياسية تشكلت في الصراعات الدموية التي تلت موت الرسول ووصلت الى ذروتها في نجاح الامويين في السيطرة على السلطة، وتكرست في نص الاعتقاد "القادري" القائل بوحدانية الله وسيادته وصفاته واطروحة القرآن غير المخلوق وتبجيل الصحابة وادانة علم الكلام. ثم ترسخت هذه الوجهة على يد طبقة رجال الدين الذين بلوروا النصوص، اي اللاهوت الرسمي وفرضوه حقيقة مطلقة، لذا لا يرى عاشور من سبيل الى فهم الاصولية الحالية الا بالعودة الى فهم الاصولية الام، اي الاصولية التأسيسية التي خلع عليها الزمن مشروعية تقديسية هائلة.
في مقابل عرض لثلاثة كتّاب مسلمين تناولوا الاسلام، يتطرق هاشم صالح الى اربعة كتّاب مسيحيين انخرطوا في الموضوع نفسه. يمثل السويسري هانز كونغ، وهو من اهم علماء اللاهوت المسيحي في القرن العشرين، واحدا من القلائل كتبوا بموضوعية وعالجوا مسألة "تأزم الاسلام، وكيف يمكن تفكيك لاهوت القرون الوسطى في الاسلام؟"، فأشار الى ان الطاغي في الاسلام اليوم هو فقه القرون الوسطى ولاهوتها وفتاواها، ليصل الى سؤال عن مدى قدرة الاسلام على التأقلم مع عالم الحداثة وما بعد الحداثة كما فعلت المسيحية واليهودية. تنطلق اطروحة كونغ من وجوب المحافظة على جوهر الاديان التوحيدية الثلاثة في جوانبها الروحية والانسانية والاخلاقية. بالنسبة الى الاسلام، تحتل قراءة القرآن والطريقة المستخدمة نقطة مركزية في اصلاح الاسلام او جموده. والقرآن وثيقة دينية تملأ قلوب المؤمنين ويضعون فيه ثقتهم المطلقة، وهو كتاب حياة وعمل وقانون واخلاق ومجتمع وسياسة. لكن القرآن، وعلى الرغم من قدسيته وتعاليه، مشروط ببيئة محددة وبزمن معين، لذا لن يستطيع المسلمون الى الابد حماية القرآن من التمحيص التاريخي والدراسة العقلية.
الباحث الثاني الذي عرض صالح لأفكاره هو الفرنسي ميشال دوس الذي اصدر كتابا بعنوان "الله في حالة حرب - العنف في صميم الاديان التوحيدية الثلاثة". ينطلق الكاتب من روح التنوير في تحليله للنصوص الدينية من موقع تاريخي عقلاني، فيشدد على اهمية اكتشاف الاسلام في الصحراء لأنه ولد فيها، ومؤكدا عدم امكان فهمه من دون فهم البيئة التي انجبته. يشير دوس الى ان كلمة "الجهاد" تعني اولا ممارسة الجهد الروحاني، ولا تعني البتة الحرب او العنف، ولم يبدأ المسلمون باستخدام الجهاد بالمعنى الحربي للكلمة الا بعدما شنّ المسيحيون الحروب الصليبية التي هي حروب مقدسة في نظر القائمين بها. يؤكد دوس ان الاديان التوحيدية الثلاثة مارست العنف باسم الله على مدار التاريخ، وان كتب الوحي الثلاثة تؤجل تحقق السلام والوئام بين البشر الى الزمن الاخروي، اي الى عالم الابدية والخلود، وان الديانات التوحيدية و"باسم التعالي الموحى به في لغة بشرية، فإنها قد تؤدي إما الى خلع الطابع الإطلاقي على ما هو نسبي، وإما الى خلع الطابع النسبي على ما هو مطلق او اطلاقي"، تالياً فوضع الاسلام اليوم يشبه وضع المسيحية الأوروبية إبان العصور الوسطى.
يتطرق صالح الى كتاب المستشرق الفرنسي الفرد مورابيا "الجهاد في اسلام القرون الوسطى"، حيث يطبّق المؤلف المنهج التاريخي على مفهوم الجهاد، فيرى انه لم يولد من العدم وانما له سوابق وجذور في العادات والتقاليد العربية السابقة على الاسلام اي عصر الجاهلية، ثم تبلور الجهاد اثناء حياة النبي محمد وقيادته للدعوة، الى ان رفعه الفقهاء الى مرتبة الفريضة واسبغوا عليه هالة من التقديس، بل واعتبروه احدى الوصايا الالهية. تقوم فلسفة الجهاد وفق مورابيا على مسلّمة اساسية تقول إن الله يتدخل في التاريخ لصالح عباده المؤمنين، فيما كرّس الرسول مفهوماً للجهاد يلغي عنه صفة الثأر السائد زمن الجاهلية، ليربطه بالله، اي بالقتال في سبيل الله، واضفى على ذلك مغريات بحيث لم تعد الغنيمة بعد الاسلام مادية فقط، بل اسبغ عليها الطابع الروحاني والمعنوي والمرتبط بالزمن الاخروي، وهذا اتاح للبدو والحفاة والفقراء ان "يحلموا بجنّات تجري من تحتها الانهار... والحور العين". يشدد مورابيا على ان الشيء الاساسي الذي يركز عليه الخطاب القرآني هو الخضوع للارادة الالهية والثقة الكاملة بالله وتسليم النفس لمشيئته، وان نظرية الجهاد التوسعي غير موجودة في القرآن، وانما هي من صنع الفقهاء الذين بلوروها ابان الفتوحات.
يختم صالح بكتاب "حدود الجهاد" للباحث الفرنسي جان بيار فيليو حيث يقدم فيه صورة واضحة عن اماكن الجهاد في العالم وعن عقلية المجاهدين المعاصرين ومدى علاقتها بعقلية القرون الاولى للاسلام، في محاولة لربط الماضي بالحاضر بما يضيء الماضي والحاضر معا. يشير فيليو الى ان الصورة الشائعة عن النبي في الغرب خاطئة تماما، فالنبي سبق ان تردد كثيرا قبل ان يحمل السلاح للدفاع عن نفسه وعن قومه في وجه الاعتداءات المتكررة عليهم، وهو اصبح نبيا مسلحا بعد فتح مكة وتأسيسه دولة عربية تفرض هيبة القانون الالهي على القبائل العربية التي كانت منقسمة ومتناحرة في ما بينها. لكن الجديد في الفكر "الجهادي" او الاصولي اليوم، ان دعاته يرون في انفسهم ممثلين للفاتحين الاوائل في الاسلام عندما كانوا يوجهون الانذارات الى اعدائهم باعتناق الاسلام او الخضوع ودفع الجزية او القتل، وهو ما اعطى صورة عن اسامة بن لادن بأنه يحاول تقليد شخصية الرسول وتقديم نفسه موازيا له.
يقدم كتاب هاشم صالح جملة افكار تبدو مهمة جدا في سياق الصراع الدائر اليوم في وجه العنف الاصولي الزاحف. هكذا يقع الكتاب في صميم معركة الاصلاح الديني الاسلامي ونشر فكر التنوير والعقلانية.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد