على قدميه دخل المستشفى وعلى النقّالة خرج منها
من البيت، إلى العناية المشدّدة، إلى برّاد المستشفى، إلى القبر.. رحلة ألم وابتزاز وإهمال وإفلاس معنوي ومادي، قطعها المريض بسام بلاش وعائلته، من لحظة دخوله مستشفى المجتهد على قدميه مريضاً، وحتى لحظة خروجه منها على ظهره جثّة هامدة..
مات قبل أن يفرح بنجاح ولديه (محمد وإبراهيم) في الشهادتين الثانوية والإعدادية.. لم يكن موته بمرض عضال، ولا بسكتة قلبية، وإنما بجلطة خفيفة في الدماغ أثَّرت في مركز النطق، فشعر بألمها في رأسه وبخروج الزبد من فمه، فأسعف نفسه إلى المستشفى، ليأخذ العلاج، ويرجع معافى إلى حضن عائلته، ولكن ذلك لم يحدث، والمريض فقد قدرته على الحركة والنطق، ولم يعد بعدها أبداً إلى حضن العائلة، رحل وتركه يتيماً وبارداً..
¶ المحطة الأولى
لم يكن وحيداً في بهو مستشفى المجتهد، كان الألم الشديد في الرأس، مرافقه العنيد في تلك الساعات الخمس التي قضاها منتظراً قبوله مريضاً من الكادر الطبي، وإدخاله بسرعة إلى غرفة العناية المشدَّدة، وإيصاله إلى المنفسة.. ولمّا تلاشى حلمه في التمدُّد على سرير في تلك الغرفة، لعدم توافر شاغر في أيٍّ من قسمي غرفة العناية المجاني أو المأجور، غادر مستشفى المجتهد، وهو على هذه الحالة؛ «مجلوط» في مركز النطق في الدماغ، وذهب إلى مستشفى المواساة، الذي استقبله وقبله في عنايته المشدَّدة، إلى أن وقع المحظور..
¶ بيت القصيد
بعد دخول المريض بسام (49 عاماً) إلى العناية المشدَّدة في مستشفى المواساة، قام أحدهم- من الكادر الطبي- بإدخال «بربيش» أوكسجين إلى داخل المريض عبر فمه، مبرِّراً فعلته الإسعافية هذه بتعطُّل المنفسة، وحاجة المريض الفورية إلى الأوكسجين.. وتبيَّن خلال أقل من ثلاث ساعات على إقامة المريض في العناية، أنَّ «بربيش» الأوكسجين الإسعافي لم يكن معقّماً، ما تسبَّب في حصول إنتان جرثومي في جسم المريض، حيث نزفت المعدة على إثره نزفاً حاداً، ولم يعد في الإمكان إعطاؤه مميّعات دم للجلطة.. وفي هذا الوقت، توجَّب إعطاؤه أدوية التهاب لإيقاف النزف. ونتيجة لهذا التضارب داخل جسم المريض، بين حاجته إلى مميّعات الدم لإيقاف الجلطة وأدوية تخثير الدم لإيقاف النزف، ازدادت الحالة سوءاً، وكانت تلك بمثابة الضربة القاضية التي سرّعت ربما في موت المريض، وقبلها في خروجه بعد ست ساعات فقط من مستشفى المواساة إلى مستشفى الحريري الخاص..
¶ دار الإنقاذ
«العصيات الزرقاء» التي استعمرت جسد المريض بسام، أرهقته أكثر من الجلطة التي كانت سبب دخوله المستشفى.. وفي مستشفى الحريري الخاص، شرح الأطباء لزوجة بسام التأثير السلبي للإنتان الجرثومي المعنّد في إمكانية تجاوز المريض الجلطة الدماغية، وربما أراد المستشفى بهذا التبرير- بحسب ابن المريض محمد بلاش- التغطية على تدنِّي مستوى الخدمات؛ ومِن ذلك عدم توافر جهاز تصوير لتحديد حجم الجلطة في الدماغ ومدى التحسُّن في حالة المريض، فضلاً عن مشكلة ضعف الكادر الطبي المبتدئ في المهنة وغير المتمرِّس بما يكفي للإشراف على مرضى العناية، حيث يقع أغلبهم تحت التمرين، رغم توافر الأجهزة الطبية اللازمة في غرفة العناية.. وبالنتيجة، دخل بسام في حالة سبات، حيث كان الكادر الطبي، وبتأكيد من زوجة المريض، يسهب في إعطاء زوجها إبر التخدير، (الإبرة في ظهر الإبرة)، وكلّما انتهى مفعول التخدير طلب أحد الممرضين من زميله إعطاءه جرعة مخدِّر ثانية، وهذا ما كان المريض يسمعه في فترة صحوه لدقائق بين الإبرة والثانية، والذي حدّث به زوجته وولده محمد فيما بعد.. وسارع المستشفى بعد خمسة أيام فقط إلى التسليم بعجزه عن إمكانية تقديم أيِّ دعم طبي للمريض بسام، بل وطلب من زوجته وأولاده الأربعة أن يدخلوا إلى غرفة العناية التي يتمدَّد بسام على أحد أسرّتها فاقداً الوعي والقدرة على الحركة، ليودِّعوه، لأنَّ هذه آخر ساعات حياته، واحتمال أن يعيش لا يتجاوز الـ1%.. «المريض عم يودِّع».. هكذا وببساطة وبتسليم بالقضاء والقدر، قالها طبيب العناية على مسمع من زوجة المريض، التي قامت على الفور بنقله بسيارة مجهَّزة بكلِّ التقنيات «وكلو بحسابو» من مستشفى الحريري الخاص إلى مستشفى السلام الخاص، بعد أن كلَّفتهم الأيام الخمسة في مستشفى سريع اليأس من شفاء المرضى ما يقارب 200 ألف ل.س تكلفة إقامة وثمن أدوية وتحاليل وتصوير..
¶ تلك مصيبةٌ
في مستشفى السلام، تحسَّنت حالة المريض بسام خلال ثلاثة أيام، وبدأ يصحو ويحرِّك يديه وقدميه حركات إرادية، ومن ثم اقترح الكادر الطبي فطم بسام عن المنفسة، وذلك بإجراء فتحة رغامية عوضاً عن المنفسة، وبالفعل صار بسام بعدها يتكلَّم ويتحرَّك، ويتحسَّن بسرعة غير متوقَّعة.. كما تمَّت السيطرة مؤقتاً على العصيات الزرقاء.. ولكن، قلب بسام لم يستمر في الخفقان بشكل متواصل، بل اعتاد التوقُّف روتينياً ولفترات متتالية، ولأوقات طويلة، كان آخرها لمدة سبع دقائق لم يستجب فيها، فتفاقمت الحالة وتسبَّبت في أذية دماغية.. أما الأطباء الذين أرجعوا تلك التوقُّفات المتذبذبة والخطرة إلى الجلطة الدماغية، التي لم تتم السيطرة عليها مبكِّراً بسبب العصيات الزرقاء المستعمرة، فوقفوا عاجزين أمام تلك الأذية، وواظبوا في الوقت نفسه على مدِّ أهله بجرعات من الأمل، لعلّها تمدُّ المستشفى بجرعات من الإقامة المديدة للمريض..
طوارئ
بسام مريض كباقي المرضى، جاء إلى المستشفى ليتلقَّى العلاج المناسب، والرعاية، ويعود إلى أسرته وعمله، وليس ليرتاح وينام على سرير في مستشفى خاص، ويترك أهله في الخارج يبيعون أغراض البيت لتأمين تكلفة إقامته في تلك المستشفى..
بسام ضحية للإهمال والابتزاز والتقصير، وعدم الإحساس بالمسؤولية، وحتى عندما منحوه شرف التمدُّد على ذاك السرير في غرفة العناية في مستشفى حكومي، قدَّموا له مفاجأة «الإنتان الجرثومي المعنّد»، وعجَّلوا في موته، وزادوا في ألمه..
ولئن كانت الجمعيات الخيرية تبرَّعت لعائلة بسام بمصاريف علاجه، وتواسطت بالخير لدى إدارة المستشفى لحسم 10% من قيمة الفاتورة النهائية (541) ألف ل.س، فإنَّ مئات الموتى وذويهم مازالوا أسماء على لائحة الانتظار، إنه انتظار موت إنسان في العناية المشدَّدة لأخذ مكانه.. أما المستشفيات الخاصة ففي عناياتها الكثير من الشواغر، ولكنها تنتظر أولئك المرضى الذين ملُّوا الانتظار والألم أمام أبواب المستشفيات الحكومية، فلماذا لا تكون نسبة غرف العنايات المشدَّدة في المستشفيات الحكومية بحسب عدد المرضى الذين يصابون بالجلطات، وهم آباء وأمهات وإخوة وأخوات وأبناء من هذا الوطن، يسعفون بشكل يومي إلى هذه المستشفيات.. والسؤال الأهم: لماذا لا توجد رقابة على تسعيرة المستشفيات الحكومية لقاء خدماتها التي تتقلَّص على أرض الواقع وتطول على ورقة الحساب..
** شر البلية
اقترح أحد المستشفيات الخاصة على زوجة المريض شراء منفسة خاصة، ووضع المريض عليها في البيت، وسعرها 300 ألف ل.س فقط..
وجَّه وزير الصحة كتاباً إلى مستشفى المجتهد يحذِّر فيه من إخراج المريض بسام من العناية إلا واقفاً على قدميه أو محمَّلاً على ظهره، ربما خوفاً من أن يتمَّ رفع الأجهزة عنه لمصلحة مريض آخر..
إفلاس وترجٍّ
أعلن أهل بسام إفلاسهم المادي، عندما نقلوا مريضهم من مستشفى السلام الخاص إلى مستشفى محجوب الخاص أيضاً، ولكن الأقل شهرة والأرخص مادياً.. وبعد خمسة أيام من الإقامة في العناية المشدَّدة لذلك المستشفى، وبقاء المريض على حاله فاقداً للوعي وللقدرة على الحركة ودون أيِّ تحسن ملموس، دفع أهل بسام 58 ألف ل.س، عدا عن الأدوية التي كانوا يشترونها من خارج المستشفى، ولم يبقَ هناك ما يشجِّعهم على بقاء بسام فيه؛ لا مستوى العناية المتدنِّي ولا عدم استقرار الحالة الصحية.. فقرَّروا القيام بكلِّ محاولات التوسُّل والترجِّي للعودة بالمريض إلى محطته الأولى التي قصدها منذ لحظة شعوره بالجلطة، إلى مستشفى المجتهد..
¶ المحطة الأخيرة
رقَّ قلب مديرة العناية المشدَّدة في مستشفى المجتهد لتوسُّلات أهل المريض بسام، لاسيما بعد أن أدركت مدى الألم الذي قاساه المريض وعائلته في رحلته العلاجية التي ما كانت لتكون لو توافر شاغر في عناية مستشفى المجتهد عندما قصده بسام قبل 34 يوماً و11 ساعة. وبالفعل، أدخلته إحدى غرف العناية المشدَّدة، ولكن في القسم المأجور (الخصوصي)، لقاء مبلغ مقبول بقيمة 5000 ل.س، وبقيت حالته مستقرَّة دون تحسُّن أو أمل في الشفاء.. وفي اليوم الأخير من إقامته في العناية، انتبهت زوجته إلى وجود خرَّاج في المنطقة تحت الأذن اليمنى، ففوجئ اختصاصي العناية بوجود الخرَّاج، حيث لم يلحظه من قبل، ثم عاد ليبرِّر ظهور مثل هذه الكتلة والانتفاخات التي أصابت المريض في معظم جسمه، والتفتق في الظهر.. بأنه أمر طبيعي الحدوث في حالة مثل هذه الحالة، علماً بأنَّ بسام بقي على هذه الحالة لمدة أسبوع قبل أن يحضر طبيب الجلدية ويكشف عليه..
¶ في الثلاجة
بسام لم يرتح لا في مرضه المفاجئ، ولا في موته، إذ لم يكتفِ الكادر الطبي لمستشفى المجتهد برفض قبوله في المرة الأولى ودفعه إلى رحلة ألم قاسية وطويلة تكلفتها مليون ل.س على مواطن من الطبقة المتوسطة، بل احتفظ المستشفى به في ثلاجة المستشفى يوماً كاملاً يضاف إلى أيام مرضه الـ56 و11 ساعة، حيث لم يتلقَّ أهله خبر وفاته التي حصلت في الساعة السادسة صباحاً إلا في الساعة الثانية عشرة ظهراً، وبالتالي لم يتمكَّنوا من إنهاء معاملة الوفاة وإجراءات الدفن لفرق الوقت.
دارين سليطن
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد