عن الاغتصاب في ذاكرة الطفولة
طالما مرت في حديث الجارات كلمة اعتدى عليها، أو عليه، اغتصبها، فعل فعلته بها أو به.. وقتها كنا صغارا نلعب في صمت المنصت الباحث عن معارفه المكتسبة، والتي ستصبح عقائده أو جزءا منها فيما يلي من عمرنا المشوه، وقتها لم يكن بالذاكرة وحي لتلك الكلمة إلا أننا درسنا عن الاغتصاب في كتب التربية الوطنية ملاصقة للأرض، أرضنا المغتصبة.. لذلك فهمت أن المقصود شيء بشع، قذر لأقصى حد..
الآن، وبعد طول ذلك العمر، ليس مفاجئا أن تعود تلك الحوادث المبهمة لتطفو على سطح الحياة كأنها وحدها ذاكرة الذكريات.
الخوف، وحده الخوف ميراثنا من سفوح الأرصفة التي تعلمنا أن نخاف غرباء أو أقرباء، نخاف أحضانهم نخاف قبلاتهم، نخاف عطفهم على طفولتنا، لأن جوعهم مخزون لا يمكن أن نتوقع متى يشق ستار وجوههم المبتسمة ليعلن توحشه على أجسادنا..
الفتاة ذات الثانية عشرة، بشفتها المرتخية، تعلن تشوها خلقيا ملازما لحالة تأخرها العقلي، لم أكن وقتها سوى طفلة صغيرة وسط مجموعة أطفال يضحكون حين تتصرف بسذاجتها، ويضايقونها لتظهر ردود أفعالها البدائية، قالت أمي وقتها: حرام هذه معاقة ذهنيا، أخذت تشرح لي حتى شقت عاطفة بشرية نقية طريقها إلى قلبي فصرت ألاطفها، وهي التي تفوق حجمي ثلاث مرات، تلك الشقراء التي تمشي على الأرض فتنوء بثقلها عليها، لا تعرف غنج المرأة في المشي المتناسق، ولا عواطف المراهقات حين يبزغ النور في صدورهن الفتية، كانت طفلة أصغر مني في جسم امرأة تحشره المريول الخاكي، استنفذت سنوات الرسوب لكن معلمة الصف السادس لم تفرج عنها بوثيقة إتمام المرحلة الابتدائية، والأهل فضلوا ذهابها للمدرسة مع شقيقتها الأصغر، لأن الوالدة مريضة من سنوات، وبالكاد تتحرك بسبب قلبها المنهك، هي كانت سعيدة بوجودها مع الصغار الأكثر قدرة على التقارب معها، تشاركهم ألعابا وحكايات لم يمنعها جسدها الناضج من التمتع بسعادة هذه العشرة لأنها لم تكن تشعر به في حلم الطفولة التي اختار لها القدر أن لا ينتهي، لو ان هذا الجسد استفز شهوة عمياء في مكان قريب..
في ذلك اليوم في تلك البلدة المتعطشة للثرثرة، خرجت الصبية مقدار ثلاثة أمتار من باب المنزل وحدها، ولكنها لم تعد حتى آخر النهار، ترددت الكلمة ذاتها اعتداء، ثم أحاديث مبتورة عن كدمات وبثور ناجمة عن ذلك الاعتداء، وصراخها بينما كان والدها الغاضب يمزق بقية الأماكن في جسدها بحزامه الجلدي، كان حكاية الحارة.
شقيقتها التي صارت صديقتي فيما بعد، حدثتني ونحن على مقاعد الدراسة الثانوية عنها، بعد أن شاهدتها ترتجف في زاوية غرفة، مكورة على نفسها كأنها تجلس منذ سنوات في هذا الركن، وخيل إلي أنها قد التصقت به فعلا.
قالت صديقتي إنها على هذا الحال منذ الحادثة، كانت تتكلم، تضحك، أما الآن فبالكاد تأكل..
استدرجها شاب عمره ثمانية وعشرون عاما، كان يسكن في الجوار ظل يراقبها حتى غفل عنها أهل البيت لحظة، وبخدعة بسيطة صدقت أن عمها يريدها، وقد أرسله ليصطحبها ويشتري لها بعض الشكولا، أقام عليها وليمته، وتركها ترحل بعد أن ضب أغراضه ورحل من الغرفة المستأجرة، ورغم توصياته لها بأن تقول أنها في بيت الجيران، لكن العلامات الحمراء في كل مكان في جسدها الطري كانت تحكي وحشية ما حصل، ثم طالت بعد ذلك المحاكم والشكاوي والدعوات، ولكن لم يكن القانون قادرا لا على حمايتها، ولا على ردع انتفاخ الشهوات في هوامش فجور شرق الظلام، ولولا تدخل بعض العقلاء لإقناع الوالد بانتفاء الذنب عن من هي في مثل حالة ابنته، لكانت اليوم مجرد شاهدة على قبر لا يزوره أحد، ولو أنها ليست بعيدة عن الموت، ورغم وضعها الصحي لكن الصدمة خربت حتى طفولتها التي كان يفترض ان تعيشها بسلام حتى آخر حياتها..
في تلك الحارة التي تختزن أعداد من البشر في مساكنها العشوائية، كانت هذه الحوادث مألوفة من حين لآخر بمعدل واقعة كل سنة أو سنتين، آخرها قبل أن تضيع الطاسة، قصة طفل من ذوي متلازمة داون اعتدى عليه عدد من الشباب بعد أن ضربوا سيجارة حشيش، ولكن المحكمة لم تتدخل لأن أهل الطفل لم يشتكوا، وقبلوا بمصاريف علاج الطفل مع منحة مالية لا أعرف قدرها..
كان يا ما كان..
أعلم أن ما قلته مؤلم لإنسانيتنا، لكنه واقع، حين يستبد الجوع الغرائزي في كائنات لم تختبر إنسانيتها على طول فلسفة الجوع والخوف هذه هي النتائج. أطفال بدل أن يكونوا في مراكز متخصصة بحالاتهم التي لم يختاروها تحولوا إلى وقود لنيران متعة جياع الكبت، فقط لأنهم لن يهربوا حين نلوح لهم بعلكة أو مصاصة.
المشكلة أننا وقتها كنا نسمع ونعد، ونحصي، ثم نحصر السيئين، ونشير بعين العطف إلى الضحايا، اليوم صارت الحارة توسعا عمرانيا ممسوخا بطوابق وشقق تكنز ما تكنز من كتل اللحم الآدمية القادمة من جحيم القهر إلى جحيم الجوع، في زحام بلا رحمة، لم نعد نعرف أعداد السكارى والحشاشين، ومتعاطي الفوستان، وهل سوق المخدرات في بلادنا يشبه حي الباطنية في مصر أم أن زحامنا لم يصل بنا لهذا الحد و لم نعد نعرف جيراننا، ولا نلقي التحية على أحد، لم نعد نميز صاحبات العباءات السود، هل هن من مطربات ليل الفرفشة، أم من قاطعات طريق سائقي الشحن، أم سيدات فاضلات يخرجن للتسوق..
أطفالنا المتناثرون على مد الأرصفة يتمسحون بجيوب المارة، والجرب يأكل أيديهم وعيونهم في القرن الواحد والعشرين، سواء كانوا مثل الحالتين السابقتين أم لا فقد صاروا في مهب النشاط الجنسي المبكر والدعارة، لن يهربوا، ولن يحتاج أن يحتال عليهم شاذ، لأنهم يفاوضون المارة على أرصفة بلا إحساس، خارج الحماية خارج الرحمة، خارج الرقابة، غفل الكل عنهم، ونام الزمان على آلامهم ..
ميس الكريدي
المصدر: مجلة الثرى
إضافة تعليق جديد