عَلَـمُ سورية
إن كنتُ- أنا محسوبَكم الصغير- أتحاشى الكتابة في المناسبات المختلفة، فلأنني أخشى على نفسي من الانزلاق إلى عالم الخطابات الإنشائية التي اعتدنا عليها من بعض الزملاء الكتاب والصحفيين الذين يتصيدون المناسبات تصيُّداً لينظموا خطاباتهم الإنشائية فيها، نثراً أو شعراً..
هذه الخطابات الإنشائية تجعلنا نتعامل مع الحياة من دون تفكير، على مبدأ (عليهم، عليهم) الذي ياما احتدمتْ لأجله المشاكلُ والحروب والصدامات..
إن الشخص الذي يُطلق هتفة (عليهم، عليهم).. يقصد منها تحريض جموع القوم على الاندفاع والجري وراءه، ليحاربوا الشخصَ الذي يريدُهم هو أن يحاربوه، مع أن هذا الشخص يمكن أن يكون جيداً ونافعاً لهم، أو يناصروا شخصاً لا يعرفونه، ولكنه هو يريدهم أن يناصروه، فيفعلون ذلك، وأحيانا يستشهدون، أو يلحق بهم أذى كبير من جراء هذا الاندفاع العشوائي، مع أن هذا الشخص يمكن أن يكون سيئاً وضاراً بهم!..
والغريب في الأمر أن الشخص نفسه إذا أعاد الكرة، وهتف (عليهم عليهم) سرعان ما يندفع البعض وراءه، من دون تفكير. فانظروا إلى الخطابات الإنشائية البلاغية كم لها من تأثير.. إنها أقوى من السحر.
بيد أن حادثة جميلة حصلت قبل مدة من الزمن هي التي جعلتني أخالف القاعدة، وأخصص هذا الحديث الصباحي لمناسبة عيد استقلال سورية.
فبينما أنا قادم إلى مدينتي الغالية إدلب، من طريق دمشق، إذ رأيت علم سورية مرتفعاً على نحو شاهق، مزروعاً وسط الساحة الكبيرة التي تطل على طريق حلب وطريق دمشق وتُعرف باسم (دوار المحريب).. وكان النسيم يومها هادئاً، وكان العلم يرفرف بأبهة مُبهجة.
بعد أيام كنت أمر في ساحة المحريب ومعي الأب ابراهيم فرح (خوري طائفة الروم الأرسوذوكس في إدلب)، فقال لي وهو ينظر إلى العلم:
- يوم انتهى العمال من تركيب السارية، وارتفع العلم.. حدثت حادثة طريفة جداً.. ذلك أن إحدى السيدات، وهي تسكن في منزل قريب من دوار المحريب، فتحت نافذة بيتها بالمصادفة، فرأت علم سورية فزغردت! فلما حضر زوجها من الغرفة الثانية وعلم بما جرى، ورأى العلم يرفرف، شَغَّل جهاز التسجيل على أغنية راقصة، وشرع يدبك!
وعلى الرغم من أن الحادثة واقعية، وممكنة الحدوث في كل مكان.. لأن معظم أبناء الشعب السوري يحبون سورية، ويحبون علمها، إلا أن حديثنا قد دخل، كما ترون، في إطار ما يسمونه في عالم الفن (الميلودراما) التي تعتمد التأثير على مشاعر المشاهد، أو القارىء، دون أن تخاطب عقله ووجدانه.
فإذا أردنا أن نخاطب العقل يمكننا أن نقول:
إن ساحة (دوار المحريب)، كما يعلم أهل إدلب، موجودة هنا منذ أكثر من خمسين سنة، وحتى حينما كان طريق حلب اللاذقية يمر من مدينة إدلب كان القادمون والمغادرون يعبرون هذه الساحة. وقد توالى على المحافظة منذ ذلك التاريخ عدد كبير من المسؤولين.. والساحة موجودة، وهي تحتوي على بعض التماثيل والنصب التذكارية.. وقد أعيد تصميمها أكثر من مرة، وصرفت عليها أموال كثيرة.. ولكن.. لماذا لم يخطر في بال أحد أن يعلق فيها علم سورية قبل الآن؟
إن هذا الحديث لا يعني، بحال من الأحوال، أن المشكلة التي نتحدث عنها (إدلبية) محلية، فمدينة حلب، على ضخامتها، وضخامة ميزانية مجلس مدينتها، لم أرَ في مدخلها الرئيسي علم سورية حتى قبل عدة سنوات حينما زرعوا علماً في المدخل الغربي. وأعتقد أن المحافظات السورية أصبحت تفعل الشيء نفسه.
إن وجود علم سورية في مداخل المدن السورية الكبرى، على كل حال، هو مسألة رمزية، يقودنا الحديث عنها إلى تساؤلات كثيرة حول مفهوم الاستقلال نفسه.
منها: أن تسمية عيد الاستقلال باسم "عيد الجلاء" تنطوي- برأي محسوبكم- على إقلال من شأن المناسبة، فالجلاء يعني خروج آخر جندي فرنسي من سورية يوم 17 / 4 / 1946.. وهذا عمل آني، تحقق في ذلك التاريخ، وانتهى الأمر.
وأما مفهوم "الاستقلال" فيشمل مجموع ما تراكم في العهود المتلاحقة من إنتاج حضاري، وتطور.. على صعيد المجتمع والفكر والفن والثقافة والسياسة والتشريعات القانونية والاستثمارية والمالية، وما تم إنجازه، حتى الآن، في سبيل الحرية وحقوق المواطنة.. وحتى الصراع مع العدو الإسرائيلي، عسكرياً أو دبلوماسياً، في سبيل تحرير أرض الوطن المحتلة، يندرج تحت مفهوم الاستقلال.
وهذا أمر قابل للنقاش بالطبع.
خطيب بدلة- البعث
إضافة تعليق جديد