ماذا بقي للعرب بعد أن باعوا ثقافتهم بالدولار؟
المال الأميركي والأوروبي يمول مراكز ثقافية عربية مؤثرة في بيروت والقاهرة ورام الله، وعمان، وغيرها. المال الغربي، الذي يأتي محملاً بقيمه واستراتيجياته وأهدافه، يحرك مهرجانات في غالبيتها شبابية، على امتداد المساحة العربية، ويصدر مجلات وكتبا، وينظم أسابيع ثقافية، وينتج الأفلام والمسرحيات ويشتري حبر الأقلام وألوان اللوحات. لقد قرر فنانون ممولون غربيا أن يتحدثوا بصدق عن قلقهم البالغ وألمهم العميق، من هذه المنح الباهظة الثمن، في حضور الممولين أنفسهم، الذين بدت حججهم واهية، ومراميهم أوضح من عين الشمس.
* استغاثة تستحق أن يصغى إليها تلك التي خرجت من «مسرح المدينة» في بيروت، أثناء ندوة جمعت ممثلين عن مؤسسات غربية تمول الثقافة العربية، وفنانين عرب يتلقون هذه المساعدات منذ سنوات. لنقل انها جلسة مصارحة حملت عنوان «مال للثقافة ولكن بأي ثمن؟»، تحولت إلى نشر للغسيل الوسخ، دعت إليها مجلة «زوايا» في إطار احتفالها، بمرور ثلاث سنوات على صدورها.
قد يكون المسرحي اللبناني المعروف روجيه عساف، الذي يدير مركز «دوار الشمس» هو من أطلق الشرارة الأولى للاعترافات، حين قال في معرض شرحه للوضع المأساوي الذي يعانيه الفنانون، بسبب التفاوت الكبير بين الطموح والإمكانات «ان المثقف بات يكيف مشروعه مع المانح. حين أعمل، أحاول أن أجد زاوية في مشروع الآخر لأنفذ منها». وعلّق بعد ذلك الفنان المصري المعروف أيضاً حسن الجريلتي والذي يدير «مسرح الورشة» في القاهرة، شاكياً: "المانحون يجعلوننا جزءاً من مشروعهم التنموي. هذه السنة يجب ان نتكلم عن الجندر، والسنة المقبلة عن المعاقين... يصعب على واحدنا أن يضبط نفسه مع ايقاع الممولين. يقال لنا انه فن في خدمة التنمية. أين قيمة الخيال والتعبير عن المتعة... مجتمعاتنا لا تنمو وإنما تنمّى».
الثقافة توقع ضد الإرهاب
المسرحيان المعروفان يقولان لنا انهما يحاولان ان يتحايلا على الأجندات المستوردة التي تفرض عليهما وقد يفشلان أو ينجحان، لكنهما تحت الضغط، وخياراتهما ليست كبيرة. وبدل أن تبحث مؤسساتنا الثقافية عمن يمول فكرتها، صارت تبحث عن الفكرة التي تعتقد أن ثمة من سيقبل تمويلها.
أخطر من ذلك ما قالته كريستين طعمة التي تدير «جمعية اشكال ألوان» في لبنان التي التفتت إلى مدير المكتب الإقليمي لـ«مؤسسة فورد» الأميركية مختار كوكش، لتصارحه «أنتم تقولون ان الأوامر لا تأتيكم من اميركا، لكنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التساؤل حين تطلبون مني أن أوقع ورقة أقول فيها انني ضد الإرهاب، او ان تمنعوني من دعم فنانين ايرانيين أو عراقيين». وبتناسل الكلام والحوار يتبين أن التوقيع ضد الإرهاب لم يكن حكراً على كريستين طعمة، فمقابل عرض سينمائي أو مسرحي تراه أو ربما كتاب تشتريه ثمة من وقّع على تعهدات يصعب اليوم معرفة أبعادها. فعادلة العايدي التي أدارت لسنوات «مركز السكاكيني» في رام الله، روت ما هو أدهى: «المشكلة في فلسطين أكبر، فالمؤسسة الثقافية الممولة عليها في كل مرة أن تعمل جردة أو لائحة بأسماء المشاركين في ورشة عمل، لتثبت أن ليس من بينهم من هو موجود على لائحة الإرهاب. غالبية المؤسسات الفلسطينية الثقافية المحترمة رفضت التوقيع. لكن في النهاية ظهرت 1200 مؤسسة وقعت وقبلت».
ريبة وإحساس بالذنب
الفنانون يشرحون أنهم يشعرون بالريبة والقلق من المصادر التي تمولهم، وثمة من استعمل عبارة «الإحساس بالذنب» و«الإثم». هؤلاء لا تقنعهم في اي حال كلمة «شريك» التي يطلقها عليهم الممول من باب تخفيف الوطأة ـ كما يقول حسن الجريلتي ـ «لا يوجد شراكة ولا حوار. يبدو لي وكأنني في مدرسة، وتطاردني المعلمة لأعمل دعاية لفرشاة الأسنان».
المؤسسات الغربية المانحة الموجودة، لم تصمت أمام هكذا اتهامات تشكيكية. لم يقل هؤلاء بالكامل ما يضمرون، لكنهم أيضاً لم يخفوا أن لهم مصالح يسعون لتحقيقها. كيرستن ماس التي تدير المكتب الإقليمي لـ«مؤسسة هينريش بل» الألمانية في بيروت، شرحت أن ثمة قيماً تسعى المؤسسة لنشرها «وكلمات مثل تضامن وقيم وثقة هي من المفاتيح بالنسبة للمؤسسة. إذا لم يكن بيننا من ثقة فليكن احتراماً. ينظر إلينا على أننا نضع أجنداتنا الخاصة، ولكن هل تجتمعون أنتم وتخبروننا ما هي حاجاتكم لنتعامل معها».
فانيسا ريد من «المؤسسة الثقافية الأوروبية» اعترفت بأنها غالبا ما تواجه علاقات اصطناعية مع الذين تمولهم، وأن المطلوب هو مزيد من الحوار، إذ هي لا تفهم لماذا لا يقبل مبدعونا أن يكون الفن شكلاً من أشكال التنمية.
وبما أن الهجوم الأكبر خلال تلك الندوة، كان على «مؤسسة فورد» باعتبارها أميركية، فإن مديرها الإقليمي مختار كوكش، لم ينكر أن كل تمويل له آفاق سياسية. لكن العلاقة بين الجهات المانحة والمستفيدة ثنائية. وعلى طالبي الهبات أن يضعوا حداً للممول وتدخلاته «وانا لا تصلني أوراق وخطط وتصميمات من الولايات المتحدة. لكن المؤسسة لها برامج واستراتيجيات تريد أن تظهر آثارها. البعض يريد أن يمدك بالهدايا ويغرقك بالسلامات، مقابل حصوله على مساعدة. لكنني أقول لهم ليس هذا ما أحتاجه أريد أن أعرف ما تريدون أنتم». التوقيع ضد الإرهاب ليس مطلباً لمؤسسة فورد، كما شرح مديرها الإقليمي «فنحن مؤسسة يسارية وليست امبريالية ولا تتبع (السي. أي أيه) كما تظنون، وحكومتنا يمينية. نطالبكم بتوقيع أوراق كي لا تفرض علينا شروط إضافية. نريد أن نقول لحكومتنا انظروا ماذا نفعل، ها انتم تعرفون أدق التفاصيل التي نسير وفقها. لا أقول ان الفنون تستخدم لمكافحة ختان البنات لكنها تساعد في بناء المجتمع المدني، مشاريع كثيرة تطلب تمويلاً، تتحدث عن الذات والفرد، وهو ما يعكس، مشكلة قصور في النضج المدني».
محنة كتابة التقارير
ولما تحدث المشاركون العرب المستفيدون من المنح، بتأفف وتذمر من كثرة التقارير التي يطلب منهم تقديمها عن نشاطاتهم، كان الجواب جاهزاً: «نحن ايضاً لا نحب قراءة التقارير التي نطلبها منكم، لكنها الطريقة المثلى، في هذا العالم الذي نعيش فيه».
رائد عصفور يدير "مسرح البلد" في الأردن ويرى نفسه محاصراً من مجتمعه من جهة، الذي يشكك به حد اتهامه بالخيانة، لأنه يقبل هكذا تمويلات، ثم من الجهة المانحة التي تضع له في كل مرة شروطاً إضافية، تريد إخضاعه لها، «"نحن نعاني إرهاباً من الخارج وإرهاباً آخر يمارسه علينا مجتمعنا».
بيار أبي صعب الذي أسس ويدير مجلة «زوايا» الشبابية (صاحبة الدعوة) رأى أن المشكلة في طالب التمويل الذي لا يضع شروطه هو، ويفرضها على مموله، «أنا شخصياً، استلمت ورقة للتوقيع ضد الإرهاب ورفضتها. أسست زوايا بمساعدة مؤسسة فورد، ولا مرة طلب مني أي شيء. هذا الممول الغربي حررني من حكوماتي والممول العربي، معاً. أتحداكم، باستثناء البرجوازية الفلسطينية، أن تجدوا رأس مال عربي يقبل بتنمية التجربة الفنية في سبيل إنماء المجتمع. دعونا نتنبّه من هو الممول الذي نختاره ونضع عليه شروطنا. وإذا لم يقبلوا ـ قال ساخراً ـ نستطيع أن نغلق المشروع ونتحول إلى الإرهاب. لم يتأخر الوقت بعد».
عادلة العايدي التي تعرف هذه المؤسسات المانحة عن كثب أجابت: «هم أيضا عندهم أزمة، عندهم مبالغ يجب أن يصرفوها قبل نهاية كل عام، لكن إذا أنت رفضت فإن غيرك سيقبل بالشروط».
ماذا لو توقفت المساعدات الغربية
كريستين طعمة كانت شديدة الواقعية حين قالت: «عددنا يتكاثر وكلنا نتوجه إلى 6 أو 7 مؤسسات، نعرفها جميعاً. وأنا أعيش هاجس أن تتوقف هذه المؤسسات عن مساعدتي. هل أوقف مشروعي وأغلق بابي، واذهب إلى البيت».
الكلام الذي قيل في ذلك المسرح الصغير والحميم في قلب بيروت، بحضور صحافيين ومثقفين وناشطين فاعلين في الحياة الثقافية العربية، بدا تأثيره متفاوتاً على الحضور. البعض وكأنما جاء فقط ليسأل عن الطريقة التي يستطيع أن يمول بها مشروعه الثقافي، ورغم الكلام القاسي الذي سمعه لم تتزعزع رغبته قيد انملة. لكن كثيرين أيضاً تساءلوا عن معنى الشعارات التي تختبئ وراءها الجهات المانحة: «ديمقراطية»، «مجتمع مدني»، «مواطنية»، «حوار»، عناوين بعد هذا اللقاء بات بمقدورنا أن نفهم بسهولة، لماذا تجتاح مسارحنا وعناوين أفلام الفيديو الشبابية، والتجهيزات التي تملأ قاعات العروض، وجوهر الأفلام الوثائقية التي تصور. وتساءل شاب جزائري له خبرة مع هذه المؤسسات «أخبرونا ما معنى الدفاع عن حقوق الإنسان في حالة حرب أهلية». وثمة ايضاً من أخبرهم أنه خائف لأن كل شيء بات عرضة للتقسيم بما في ذلك بيته وعائلته.
الحوار كان جاداً وخطيراً، خاصة حين تحدثت عادلة العايدي عن محاولة فشلت لإقامة صندوق وطني فلسطيني لتمويل الفنون، يقي الفلسطينيين مخاوف هذه التمويلات الوافدة. وتعالت الأصوات تطالب بالتوجه إلى أصحاب رؤوس الأموال العربية ليفعلوا شيئاً بدل هذا الصمت. وانفض الجمع وقد توضحت أمور كثيرة، من دون أن يتمكن أي من الغاضبين أو الخائفين او المحاصرين بالإحساس بالذنب، من فعل شيء يجعل غده أقل ارتهاناً للآخر، وأقرب إلى وجدانه الذاتي المستقل
سوسن الأبطح
المصدر: الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد