«الوصية» مسرحية لزيناتي قدسية في دمشق: دراما الرفض
يقيم المخرج (والممثل المعروف) زيناتي قدسية عرضه المسرحي الراقص «الوصية» على حكاية مستجدة في الدراما الفلسطينية، تلك التي نشأت بُعيد اتفاق اوسلو، الذي فتح بدوره الباب لـ«عودات» لا تحصى، ربما كان أشهرها العودة المجازية، لا الواقعية، المنقوصة والمبكرة للشاعر الفلسطيني محمود درويش، في قصيدته «مأساة النرجس، ملهاة الفضة»، العودة التي لخّصها بالقول: «عادوا، ولكن لم أعد».
قدسية يَفترض (النص لمحمد صوان) رسالة تأتي لأحد آباء الشهداء من ولده، يخبره بأن جزءاً من الأرض تحرّر، وعليه أن يحضّر نفسه للعودة. تستغرق فترة التحضير هنا العرض كله، حيث يجد الأب العجوز مساحة لسرد سيرة العذاب الفلسطيني منذ وعد بلفور، مروراًَ بالإضرابات الفلسطينية في ثلاثينيات القرن الفائت، إلى النكبة، والمجازر التي ارتكبت بحق الفلسطينيين لتهجيرهم، ويخص العرض بالذكر مجزرة قرية الدوايمة، التي راح ضحيتها حوالى خمسمئة شخص، ولم تكتشف إلا بعد ثلاثين عاماً، ثم يتطرق العرض إلى الخدعة الشهيرة التي حاكها العرب، بأن على الفلسطينيين أن يتركوا ديارهم ليعودوا بعد أيام فقط. إلى أن يصل العرض إلى اللحظة الراهنة، واستحقاق العودة.
يصرّ الأب على أن ينبش قبر ولده الشهيد، ليأخذه في تابوت مغطى بالعلم، وعند الحدود يكتشف الأب أنه لا يستطيع العبور إلى حيفا، حيث وصية الابن بأن يدفن هناك، ويكتشف أن تلك العودة ناقصة، ولا تأخذه إلا إلى جزء من الوطن، وهو يكتشف بالأساس أن الإسرائيليين هم من سيسمح له بعبور الحدود، فيشتم عودة ناقصة كهذه، ويسبّ التسوية التي لا تعيد إليه حيفا، وقبل أن يقتل على يد إسرائيليي الحدود يوصي هو الآخر مجدداً بأن يدفن مع ابنه في حيفا.
لكن يبدو أن الحكاية ما هي إلا ذريعة للرقص والاستعراض، حيث معظم العمل أغنيات وموسيقى فولكلورية لفرقة «نداء الأرض»، فرقة لهواة الرقص وجدت «الوصية» طريقاً لها، من دون أن يحسب أحد أن تدخل الأغنيات والموسيقى في نسيج ما. كان يمكنها أن تكون حفلاً ترفيهياً، فيه أغان من الذاكرة، وموسيقى شعبية، وملابس تقليدية مطرزة، وأخرى للصيادين وغيرها.
كان يمكن بالطبع أن نغفر للعرض حكايته، لو كانت بقية العناصر متقنة، الرقص والموسيقى والديكور، والتمثيل. ولشدّ ما استغربنا أن زيناتي قدسية، المخرج هذه المرة، أصرّ على أن يؤدي بصوته فقط دور الأب، فيما تُرك الإيماء لممثل هاو، ليستعاد الصوت مسجلاً على خشبة المسرح، كان يمكن أن يكون ذلك مبرراً لو كان الممثل الذي لعب دور الأب يؤدي دوره راقصاً. إنه أمر ينقص من حيوية المسرح، وراهنيته ولحظاته الحارة.
الأسئلة الحارة؟
الأهم من ذلك هو لغة الإنشاء التي قام عليها العرض، ليس فقط في الحوار الخطابيّ والصارخ، بل حتى في الصورة، التي كانت تصرخ هي الأخرى، فمنذ البداية سنجد على الخشبة تلك الشجرة التي تورق كوفيات فلسطينية، ثم تابوتاً مغطى بالعلم الفلسطيني، إلى رضيع نجا من المجزرة لُفّ بالكوفية، والبقجة التي تحملها الابنة لتعود إلى حيفا هي عبارة عن كوفية أيضاً، أي بلاغة إذاً؟!
لكن ما ينبغي الإشارة إليه أيضاً، على مستوى الموضوع، أن من السهل والمحبب لدى الجمهور تقديم دراما الرفض؛ يريح المرء نفسه من عناء الجدل والخوض في الأسئلة الصعبة إذا قال لا لكل شيء دفعة واحدة، إن ذلك يعفيه ويريحه من البحث في الدراما التي تنشأ على الأرض، دراما الأمر الواقع والتباساتها. فماذا يريد «الوصية» هنا أن يقول سوى رفض العودة المذلة، ورفض التسوية الأكثر إذلالاً؟ إن ذلك وحده لا يقيم دراما. ومن الغريب والمفارق أن الفلسطينيين على الأرض يعرفون معنى ذلك جيداً، فهم اليوم يضربون مثلاً في توجهات إبداعية من نوع مختلف، وللمفارقة أيضاً فإن عرضاً فلسطينياًَ جاء من الداخل الفلسطيني يحمل اسم «أبو حليمة» كان أكثر نضجاً وواقعية وإشكالية من «الوصية» (العملان قُدما في إطار احتفالية «أيام مقدسية» التي تقام في دمشق احتفاء بالقدس عاصمة الثقافة العربية 2009)، وهناك أمثلة كثيرة من الداخل الفلسطيني تدحض توجهات الخارج، هذا الذي يُفترض أن لديه الفرصة الأكبر للتأمل والتساؤل من غير انفعال. يبدو أن الخارج يحتاج إلى مزيد من الوقت للحاق بالأسئلة الحارة واليومية التي تنشأ على الأرض. كما يبدو أن زيناتي قدسية، الممثل الفلسطيني المعروف، ينبغي أن يخصص جزءاً يسيراًَ من وقته التلفزيوني الثمين للتفكير في ما ينبغي التفكير فيه.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد