أفلام إيطالية وجزائرية وأسبانية وكورية في«مهرجان دمشق السينمائي»
يحكي فيلم السيرة الذاتية الإيطالي «الانتصار» قصة صعود الزعيم الفاشي موسوليني، وفيه يسلط المخرج ماركو بيلوتشيو الضوء على جانب من حياة الزعيم الإيطالي، حين يبدأ من قصة حبه مع إيدا دالسيرا، التي تعلّقت به مذ كان يعمل في صحيفة اشتراكية. آمنت إيدا به، وبطموحه الكبير في القيادة. تزوجت به، وأنجبت منه ولداً، ولكن موسوليني سرعان ما ينقلب عليها، هي التي باعت كل ما تملك لتساعده في الوصول. الزعيم لم ينقلب عليها وحسب، هو الذي انقلب على تاريخه بالذات، فتحول من اشتراكي إلى فاشي كاثوليكي طمعاً بأن يساعده تحالفه مع الفاتيكان في السيطرة. لكننا هنا لا نتعرف على سيرة موسوليني بشكل مباشر، ولذلك يصلح أن يكون الفيلم نوعاً من بروفيل، إنها سيرته ولكن من زاوية جانبية. هذا إذا لم نقل إن الفيلم ما هو، بصورة ما، إلا سيرة تلك الزوجة المخدوعة التي أفاقت ذات يوم لتجد أن عقد زواجها قد اختفى، لتقضي من ثم كل عمرها وهي تسعى لإثبات زواجها من الزعيم، وبالتالي النسب الشرعي لولدها.
لكن الزعيم لا يكتفي بهجرها، وعدم الاعتراف بها، بل بوضعها في مصح عقلي تقضي فيه جلّ حياتها، أما الابن فيقضي في كنيسة، ليكبر في ظل عقدة أب غائب، لا يعترف به، وهو فوق ذلك جاثم فوق كل شي من حوله، يكبر الابن هو يقلد على نحو مسرحي وهزلي خطابات الزعيم ووقفته أمام الحشود، لكن شخصيته لا تخلو من خلل نفسي يشوبها إثر ما فعل بأبنائه. وإلى جانب ما يقدمه الفيلم من صورة كاريكاتيرية لطاغية، فهو يقدم أيضاً الصورة التي يصير إليها الناس في ظل الطاغية. «الانتصار» فيلم مشغول بعناية على مستوى الإيقاع، وعلى مستوى التمثيل الكبير لمختلف أدواره. ولقد حازت، للمناسبة، الممثلة جيوفانا ميزوجورنو، بطلة الفيلم، جائزة أفضل ممثلة.
وإذا كانت هذه السيرة مليئة بكل ما ينبغي للدراما أن تحمله، من مقاصد أو شخصيات نبيلة، وثغرات وخيانات وانقلابات، فإن فيلم سيرة ذاتية جزائرياً يحكي سيرة المجاهد مصطفى بولعيد، ويحمل الفيلم اسمه، يكاد يخلو سوى من سيرة البطولة والشجاعة، هو الذي يعدّه مخرجه أحمد راشدي أول فيلم جزائري عن شخصية مناضلة. ويحكي الفيلم حكاية المجاهد بولعيد منذ كان محارباً في الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى، ثم عاد إلى بلده ليكون مناضلاً سياسياً يحاول إخراج الفرنسيين من الجزائر بالطرق السلمية، إلى تأسيس الثورة واللجوء إلى القتال في الجبال، إلى أن يعتقل الرجل هارباً من بوليس الحدود في طريقه إلى المشرق العربي من أجل تأمين السلاح للقتال. وهنا، في السجن، تجربة أخرى مع المعاناة والبطولة، حيث يشترك المعتقلون في حفر نفق يقودهم خارج السجن. تنبع الدراما في هذه السيرة من هذه المطاردة مع الموت، في الجبال في مواجهة قوة الاحتلال العاتية، ومن ثم في في السجن، وصولاً إلى اغتياله بعبوة مفخخة في نهاية الفيلم. «مصطفى بولعيد» عمل متقن في مجاله، ولكنه في النهاية مجرد سيرة ذاتية بطلة تخلو من الدراما الحقيقية.
سِير الزعماء والمناضلين لا تقف هنا، فقد قدم الفاضل الجزيري، المسرحي التونسي السابق، الذي اعتزل المسرح، الذي يعتبر أحد أعلامه ومؤسسيه في تونس، ليعلن نفسه سينمائياً، فيلماً بعنوان «ثلاثون»، ولعله يحذو بهذا العنوان حذو زميله الفاضل الجعايبي في مسرحيته «خمسون»، وفيلمه يتناول شخصية المصلح والمناضل التونسي الطاهر الحداد، ولكن يبدو من الصعوبة تناول سيرة الحداد من دون التطرق إلى شخصيات عاصرته كالحبيب بورقيبة، والمناضل النقابي محمد علي الحامي، وأبو القاسم الشابي. الفيلم يوثق لفترة من تاريخ تونس، كما لمقاطع من سير صانعيها. ولأن المخرج من أصل مسرحي فقد ظلت أجواء المسرح مسيطرة على الصورة السينمائية، وعلى إيقاع الفيلم، حتى بدا «ثلاثون» كما لو أنه عمل مسرحي جرى تصويره بالمصادفة للسينما. الحق أنه عمل مرهق، حتى بمقاييس المسرح.
الشوارع ذاتها
مع «عنبر رقم ستة» قصة تشيخوف الشهيرة، التي استلهمت مرات عديدة للمسرح، سنجد أنفسنا أمام واحد من الأعمال القليلة في مسابقة الفيلم الطويل، التي تعتمد على أصل أدبيّ، ولكن الغريب في هذا الفيلم، الذي أخرجه كارين شاخنزاروف، أنه يحول النص الأدبي إلى ما يشبه العمل الوثائقي، وإذا كانت العادة أن نحوّل الوثيقة إلى عمل أدبي، درامي، إبداعي، فإن قصة تشيخوف قد تحولت إلى ما يشبه الفيلم التسجيلي، وكأن الفيلم أراد أن يؤكد واقعية الحكاية. وقد جاء الأداء الرائع للممثلين اللذين لعبا دوري الدكتور أندريه والمريض غروموف ليؤكد روعة الحكاية وصدقيتها (وقد ذهبت جائزة أفضل ممثل في مسابقة الفيلم الطويل لكل من فلاديمير ايلين واليكسي فيرتكوف عن دورهما في هذا الفيلم).
عالم العنبر، قد يفضي إلى عالم مشابه في فيلم «الدار السوداء»، من إخراج نور الدين لخماري، وتجري أحداثه في الدار البيضاء المغربية، ذلك أن العالم في كلا العملين قاتم ومعتم، وتكاد المدينة في الفيلم المغربي تتحول برمتها إلى ما يشبه العنبر ( الفيلم حاز الجائزة البرونزي).
الفيلم يحكي عن شابين في مقتبل العمر، أحدهما يوظف مجموعة من الأطفال في بيع السجائر، والثاني يحلم بالهجرة، كسائر شبان بلادنا، تقودهما الظروف إلى محن شتى من بينها محاولة سرقة من شأنها أن تكون فرصة العمر أو نوعاً من الخلاص. المشاهد سيقضي الفيلم وهو يلهث مع الراكضين، إما وراء لقمة الخبز، أو أمام رجال البوليس. والكاميرا ستظل تدور تلهث وتصور العمارات العالية على نحو مدوّخ، إلى أن تعود بالشابين في نهاية الفيلم إلى النقطة التي انطلقا منها؛ حيث المدينة ذاتها، والشوارع ذاتها، والفقر والركض والشبان أنفسهم. فيلم جميل ومؤثر وصارخ بالألم.
مع الفيلم الإسباني «زهور عباد الشمس العمياء» لخوسيه لويس كيوردا، نحن أمام قصة من قصص الرعب في ظل الأنظمة الدكتاتورية، إنها حكاية من زمن فرانكو، حيث يحفر زوج مطارد حفرة في جدار المنزل يختبئ فيها، في الوقت الذي ترسل العائلة بالابنة الشابة مع حبيبها للهرب عبر الحدود مع البرتغال. الابنة الحامل تسقط حملها في الغابات على الحدود، تموت هي ويموت الطفل، ويجن الزوج الشاب، إلى أن يقتل على يد شرطة الحدود. أما الزوج المطارد فيكمل حبيس المنزل مع زوجته وطفله الصغير، حيث تلتقي الأم أثناء ذهابها معه إلى مدرسة الكنيسة بكنسيّ شاب، يظل يطاردها ويتحرش بها وصولاً إلى غرفة نومها، وهنا يضطر الزوج المختبئ أن يظهر ليدافع عن زوجته، ويعرض نفسه لخطر السجن، وهنا يلقي الزوج بنفسه من النافذة العالية درءاً لمصير أكثر رعباً.
الفيلم الكوري «الجبل الأجرد» للمخرج سو يونغ كيم، وهو قد حاز ذهبية المهرجان، يحكي قصة طفلتين، اكبرهما في السادسة من العمر، وعند غياب الوالدة الشابة التي تضطر للذهاب للبحث عن الأب، وتترك الطفلتين عند عمة لا تقوى على رعايتهما، ستجد الطفلة الأكبر نفسها مضطرة لرعاية أختها وتقديم الحنان والرعاية لها. الفيلم هو هذا التيه والضياع الذي نجده في عيون الطفلتين في كل لحظة. هل هناك دراما أقسى من هذا الضياع؟ لا شيء يحدث في الفيلم بعد غياب الأم في بداية الفيلم، لا شيء أبداً سوى هذا النوسان في المكان، والانتظار المعذب لطفلتين ولا أجمل، ما يجعل إيقاع الفيلم بطيئاً وبارداً، رغم كل اللقطات الجميلة فيه. أما عن الملل من إيقاع الفيلم البارد، فلقد سمعت أيضاً من خرج من أفلام لفيلليني، المسرحي الإيطالي الشهير والمبدع، وقد شعر بالملل.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد