كابـوس شـخصي مديـد اسـمه «الآن وهنـا»
فكرتُ، وأنا أعبر ذلك المكان الرهيب، في ذلك المساء الحزين، فيما أقود سيارتي بصعوبة بالغة بين ما أمكن من أزقة المخيم؛ ما ذنب المرء أن يولد هنا، وماذا بإمكانه أن يفعل. أي جناية يرتكبها الآخرون حين يطالبون بالحفاظ على صورة المخيم وهويته وأنماط عيشه. قال محمود درويش: «لا هوية إلا الخيام، إذا احترقتْ ضاع الوطن». ولعله وصفَ، في «يوميات الحزن العادي»، وأرجو أن لا تخونني الذاكرة، تلك المرأة التي تحمل بقجة فوق رأسها، إن هي وضعتها أرضاً يضيع الوطن. إلى متى يظل أبناء المخيمات أسيري كل هذا الرعب، لأن هذا الرعب، قال، هو ما سيبقي إصرارهم على العودة مشتعلاً. لماذا لا نسأل أهل المخيم أنفسهم ماذا يريدون، وفي ما إذا كانت فلسطين قضيتهم وحدهم، لماذا لا نفكر حقاً بإلغاء فكرة المخيم.
نظرت إلى شقيقي بجانبي، تأكدت أنه ثبّت حزام الأمان، ثم قلت: يحتاج المرء إلى عشر دقائق بين مخيم وآخر، ولكنه يحتاج إلى ساعة بأكملها للخروج من المخيم. كان الحزن يملأني حقاً، وأشعر أن لا سبيل إلى مكان آخر. الحق أنه شعور بالرعب أكثر من الحزن. كلما مررت بأماكن شبيهة، من مخيمات وعشوائيات، أقول لنفسي يا إلهي، أنظر فوق أي مزبلة ضخمة نتكدس. لكنني، كعادتي أيضاً، كلما فكرت بالخلاص وبالسفر أكرر لنفسي قصيدة كافافي حول المدينة، أروح أقول: «ما من مركب، ما من طريق، أقلع عن أي أمل، لأنك، كما بددت حياتك في هذه الرقعة الصغيرة من الأرض، فقد دمرتَها في كل مكان».
بعد قليل صرنا على طريق أكثر هدوءاً وأقل ازدحاماً، فلقد هبط الليل تماماً والناس في قلب عطلتهم ينعمون. السيارة تمشي بهدوء، لا يعكره إلا المطبات التي وضعت هنا وهناك تخفيفاً لجنون السرعة. وصلنا إلى طريق ينقسم إلى اثنين، ذهاب وإياب، بينهما شجيرات وضعت في جزيرة افتراضية نصفية. فجأة؛ حادث سير على الجهة المحاذية، على الطريق الذاهبة إلى السيدة زينب؛ سيارة للشرطة ووراءها دراجتان ناريتان، وهم عبارة عن دورية في مهمة لا تقل عن عشرين شرطياً. فرامل ونار على الأسفلت، صراخ ودحرجة أجساد. هدأت سيارتي فيما رحت ألتفت إلى الحادث. بالطبع إن لسان حال المرء هنا يقول أول ما يقول الحمد لله أنني لست في قلب الحادث، ولعل شعوراً بالغبطة يتملك المرء لكونه ناجياً بالمصادفة. تماماً كلسان حاله أول ما يرى جنازة في الطريق؛ الحمد لله أنها ليست جنازتي. هل يعاقَب المرء على شعور الغبطة الخافت؟ ربما.
في قلب الهرج والمرج، يدهمني في سيارتي عشرون شرطياً بكامل قيافتهم الشرطية؛ غادِر السيارة فوراً، هات المفتاح،... ظننت أنهم يريدون أن يستخدموا سيارتي لإسعاف زملائهم، وسرعان ما بات الأمر جلياً: أنت من تسبب بالحادث. مرة قالوا أنت كنت في الاتجاه المعاكس، ومرة قالوا أنت قطعت الطريق من هنا، فعطلتَ سير سيارة الشرطة، ضربتْ الفرامل فدخل راكبو الدراجة ببعضهم وبالسيارة. «لكن ذلك لم يحدث، أقسم لكم إنني لم أقطع طريقاً، ولم أخالف الاتجاه». لا أحد يريد أن يسمع، أقسمت بالله وبضميري وبابنتي ذات السبعة عشر شهراً، أقسمت بها مراراً، لم أكن أملك شيئاً سوى هذا لأقوله، كيف يدفع المرء عنه اتهاماً باطلاً، محض افتراء، يطلقه عشرون شرطياً دفعة واحدة. ظهر مدنيّ في قلب هؤلاء العسكر، قال لهم إنه يشهد إن هذا الرجل لا علاقة له بالأمر، وأكمل شيئاً آخر، لكنهم أبعدوه إلى جانب الطريق ونهروني. بعد قليل سنحت لي الفرصة لأقفز إلى ذلك المدني وأستصرخه أن يقول، رفع يديه وقال أنا لا علاقة لي.
عشرون شرطياً قالوا، وفي ثقافتنا إذا قال اثنان إن رأسك ليس على جسمك، ينبغي أن تتلمسه، فكيف بالعشرين. سألت بعض الواقفين على طرف الطريق، لا أحد يجيب، لم ير الحادث أحد. يا إلهي أي كابوس. الصراخ ما زال في رأسي، ودحرجة الأجساد. إن أحداً ما في المشفى الآن، قد يكون بين الحياة والموت، وأنا عالق في هذا الفخ المديد.
يا رب اجعله كابوساً عابراً كما مئات الكوابيس التي مرّت في حياتي، لكن ما أشهده الآن أفظع من كابوس، أفظع من المطاردات مع رجال الأمن التي قضيتُها في مناماتي، قبل أن تتحول إلى مطاردات مع الشرطة العسكرية أثناء خدمتي الإلزامية. لا أدري كيف تسرّب كابوس المطاردات إلى منامي، ربما لأننا نشأنا على أساطير وحكايات رهيبة تحكى عن السجون، حتى النكتة جاءت لتعزز تلك الأساطير، ثم جاء دور الأدب الرهيب الذي لم يبق منه في رأسي سوى عذاب السجن. أتذكر كابوس «شرق المتوسط»، رواية عبد الرحمن منيف. أتذكر خصوصاً كتاب «الأمير الأحمر» الذي يروي فظائع عبد الحميد السراج. كنت أقرأ الكتاب، وأترقب خطى زوار الفجر تحت شباكي في المخيم. لذلك أعتقد أن قصة تشيخوف «عنبر رقم ستة» جاءت علاجاً للكثيرين، الذين عرفوا أن جنون الاضطهاد الذي أصاب إيفان في الـ «عنبر...» ليس شأناً شخصياً، وأن شعوباً برمتها قد أصيبت بهذا الداء.
قفز شرطيان إلى سيارتي وأمراني أن أقود إلى المخفر القريب، لأن الحكي يكون هناك فقط. أدرت مفتاح السيارة، وظللت أحوقل كل الطريق على مسمع الشرطيين. وفي المخفر، قلت ما عندي، وهو ليس كثيراً على أي حال، فماذا يقول مظلوم مثلي إزاء عشرين شرطياً سوى أن يحلف بابنته.
حين عرف أحد رجال الشرطة أنني صحافي لم يتردد في القول إن الصحافيين أساساً هم من خربوا البلد، لكنني مع ذلك لمحت في العمق أنهم لم يسيئوا بشتم أو ضرب، من دون أن يردعهم ذلك عن افترائهم. كان علينا جميعاً، متهماً وشرطة، أن ننتظر نتيجة الفحوص الطبية للشرطي القابع في المشفى. في غضون ذلك ستمرّ قصص لأهالي جاؤوا يشفعون لأبنائهم، ومعظم جناياتهم مشاجرات وضرب سكاكين، وهذا يكثر في يوم عطلة حيث تتكاثر الأعراس.
في هذه الأثناء أروح أفكر بوضعي الجديد، وتقبّل فكرة النوم في النظارة، ومن بعدها في سجن عدرا. أفكر بالالتباس أو سوء الفهم الذي يصور الأشياء أحياناً وكأنها حقيقية أكثر من الحقيقة نفسها. أتذكر رواية لغسان كنفاني بعنوان «الشيء الآخر، أو من قتل ليلى الحايك»، وكيف يجد البطل، المحامي نفسه في قفص الاتهام بقتل امرأة، وبدل أن يساعده كونه محامياً في الدفاع عن نفسه، فإن ذلك يجعله مدركاً أن أسباب اتهامه لا يمكن ردهّا، وبالتالي يقرر أن يلوذ بالصمت، من دون أي قدرة أو حيلة أو رغبة بالدفاع. كذلك فإن أفلاماً كثيرة تناولت هذا الالتباس وقامت عليه، وكم مرة شاهدنا هذه اللقطة؛ يدخل شخص إلى مكان ليجد فيه قتيلاً، وبينما هو يتفحص الجثة، أو يدقق، وغالباً يكون في وضع يخرج فيه السكين من بطن الضحية، تدخل الشرطة لتجد البريء في هذه الوضع الذي يحوله إلى مشتبه به وحيد بالجريمة. لكن حتى الالتباس هنا لم يحدث، لا اشتباه ولا أوضاع مطابقة. كل ما هنالك أن الشرطيين حين صحوا من صدمة الحادث أرادوا أن يبحثوا عن سبب خارجَهم، فكانت سيارتي. ولعل السرعة في إيجاد هذا الحل تؤكد أيضاً كم أن الرجال معتادون على ذلك.
لاحقاً سأحكي حكايتي، فتأتيني حكايات أخرى مقابلة ومشابهة؛ عُثر على لص في إحدى بلدات ريف دمشق، فاستطاع صاحب البيت المستهدف مع أهل الحي أن يكتّفوه ويتصلوا بالشرطة لتأتي وتأخذه، الجواب الأول كان بأن لا سيارة جاهزة الآن في المخفر، ضعوه في سيارة وهاتوه. هناك جرى التفاوض بين رئيس المخفر واللص منفردين، عرض الأخير مئة ألف ليرة مقابل النجاة بجلده، فاقترح الشرطي أن يقول اللص إنه عشيق صاحبة المنزل، وإنه قد جاء بهذا الغرض. قيلت نتيجة التحقيق لصاحب المنزل وخُيّر بين أن يُكتب الضبط، ويُفتح التحقيق رسمياً وبين أن يجري ستر المعاصي بخمسين ألف ليرة. النتيجة أن رئيس المخفر هنا كان هو الرابح الأكبر؛ مئة وخمسون ألف ليرة، وحلّ بالتراضي، فلتَ اللص، وسكت صاحب البيت، ولا ندري ماذا تسرب من الخبر لأهل الحي، وبأي عين يرمقون الآن ذلك الديوث زوج الخائنة.
لا أدري إن كانت الحكاية حقيقية أم أنها قد أُلفت لرمزيتها ودلالاتها البالغة. ومع ذلك أجد حكايتي أفظع، لا لشيء، إلا لأن عشرين شرطياً دفعة واحدة يثبتون أنهم بلا ضمير. أذهلني ذلك، لأنني كنت قد تعلمت طوال عمري أن الجماعة لا تخطئ، وأن خطأ الجماعة أرحم من إصابة الفرد... هل يمكن لأمة بحالها أن تكون بلا ضمير؟
عشرون شرطياً بلا ضمير، على رأس مخيم ملوث بالجوع والجهل والسكاكين، فما تكون النتيجة؟ لا أدري لماذا لا يطالب أحد هنا بنزع سلاح المخيمات، وهي تؤذي نفسها على هذا النحو، فالسكاكين ليست أقل خطراً. أتلهى بالنظر إلى الوجوه القادمة إلى المخفر وأتساءل. إن شيئاً آخر أحياناً يدفعنا إلى الصمت والرضى إزاء مصائبنا الصغيرة، ففي أمكنة كهذه فقط يمكن أن تجد مصيبة أفظع من مصيبتك.
الاتصالات ما زالت جارية مع المشفى للاطمئنان على حال الشرطي الجريح، قليلاً وسيقولون لي بإمكانك أن تمضي الآن في حال سبيلك، ويهمسون بأن حساباً بسيطاً ينتظرك في المشفى، فأمضي إلى هناك بكامل التسليم والرضى، بل وبسعادة النجاة من خطر سجن محتوم. أحث الخطى مستعجلاً نهاية هذا الكابوس، أقول لصاحبي أنظر، لقد أجّلت شهراً وراء شهر صورة الرنين المغناطيسي التي طلبها مني الطبيب، ها أنا أدفعها الآن للآخرين من دون تردد.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد