المفارقة والغرائبية في القصة القصيرة
خرجت القصة القصيرة من القالب الكلاسيكي، وهي كأي بناء فوقي تخضع في صيرورتها لقوانين التطور، وأصبحت لها خصوصيتها وهويتها في كل بلد وتعبر عن واقع كل مجتمع.
ولم تكن المثاقفة- وضمناً القصة القصيرة- خلال التاريخ الحديث والمعاصر محاصرة، أو يحجر عليها، وتبين ان جسور المثاقفة ثابتة المرتكزات، وراسخة القواعد بين دول العالم الغربية والشرقية،رغم كل الصعوبات والمعوقات.
يحدد ابن منظور: العجائبي (بما يرد على الانسان ، القارىء، لقلة اعتياده) ويرى الجرجاني (بأن العجب هو تغير النفس بما خفي سببه وخرج عن العادة مثله).
وينفتح العجائبي على السجلات الشعبية والمتخيّل بكافة مراجعه التاريخية والدينية والثقافية، وما يعدّ في عصر ما من باب العجب قد تزال عنه هذه الصفة فيفقدها في عصر آخر، والعجائبية هي أشياء كما يقول مكسيم رودنسون( تثير الدهشة والانبهار) بينما يرى آندريه ميكيل (ان العجب تشكيل تصاعدي او تنازلي لمعطيات طبيعية).
لم تكن العجائبية وليدة الحاضر او الماضي القريب ، فهي موجودة في تراث الشعوب وفي الاديان وترتبط بالغيبي وتتخذ من الاحلام سبيلاً للبناء على اساس المفارقة/ المغايرة والسخرية المتهكمة الجادة، بعيداً عن النكتة والهزل المغرق في الاضحاك المؤقت ، المفرغ من مضمونه ومحتواه الدلالي والرمزي.
إن قدرة القاص على التخييل والحفر في اعماق الحكايات والاحداث، هي التي تستقدم العجائبي ، ويعمل القاص على تنويع شخوصه وتحويل افعالها الى حالات متوهجة، تدهش المتلقي، ويرتبط هذا بالكثافة التخييلية التي تنتج عنها انزياحات مغايرة زمانية ومكانية، وخروج عن الواقعي والمألوف، انطلاقاً من الخارق والتضخيم، وللعجائبية لغة خاصة مؤثرة في العملية السردية، وهي التي تعمل على إنهاض الحدث وتخلصه من رتابته، بالاعتماد على المغايرة كحامل دلالي وفني ايضاً، ويقابل ذلك لغة المفارقة والتضاد غير التجانسي، التي هي وليدة مواقف نفسية وثقافية وتعرّف بأنها ( استراتيجية قول نقدي ساخر) وهي في الواقع تعبير نقدي عدواني، وشكل من أشكال القول يساق فيه معنى ما، في حين يقصد منه معنى آخر غالباً ما يكون مخالفاً للمعنى الظاهري.
إن المفارقة اللفظية اعقد كثيراً من هذا التعريف ،فهي تتحقق في عدة مستويات ويجتمع فيها او يلتقي اكثر من عنصر في حين أنها تمثل عنصراً يتعلق بالمغزى، وهو مقصد القائل، وهذا العنصر يتراوح في درجات عنفه وقوته بين العدوان والعنف والتدليل اللين، ومن الطبيعي ان تقترن المفارقة بالعجائبية وإن كانت تتمايز عنها، وتشكل طريقة خاصة بها لخداع الرقابة الخارجية، وبعث الطمأنينة للرقابة الداخلية، عبر خط الخوف الواصل بينهما، وليس بإمكان أحد اكتشاف دلالتها،لأنها شكل من أشكال البلاغة التي تشبه الاستعارة فتطغى على الظاهري وتحتفظ بالباطني، وهي التي تظهر الفرق بين ما يجري على السطح، وبين ما يتغلغل في الأعماق ويختفي وراء الجدران، أي أنها تحمل في طبقاتها الالتوائية اقوالاً مغايرة تماماً للمكشوف، وعندما تفشل وسائل الاقناع، وتتحول الكتابة الابداعية الى نمط عادي، روتيني، استهلاكي، تستخدم المفارقة العجائبية / الغرائبية لادخال المتلقي في دائرة الادهاش والامتاع، وحفظه في ذاكرته واستخدامه كسلاح احتجاجي على ما يجري في الواقع.
يؤكد النقاد ان المفارقة لعبة عقلية ذكية ومن أرقى انواع النشاط العقلي وتمثل موقفاً من التراث حين تتجه الى اعادة تقييمه من خلال اعادة صياغته وتشكيله وتفسيره وتحويله، وهي على الرغم من انها تشكل استراتيجية في الاحباط واللامبالاة وخيبة الأمل، لكنها في الوقت نفسه تنطوي على جانب ايجابي، ونظر اليها على أنها سلاح هجومي فعّال، وهذا السلاح هو الضحك الذي يتولد عن التوتر الحاد وليس عن الكوميديا.
وتقوم المفارقة على الغموض، وتتكىء على العجائبية السحرية المفاجئة، وذلك بالاعتماد على التخييل في تجاوز الواقع كلياً وتجسيد الاحلام في هيكلية جديدة غير مطابقة له.
عبرت الغرائبية الى بلادنا من الخارج، وقامت بتشجيعنا وتحريك السّكون الكامن في تراثنا وأدبنا الموجود منذ القديم، واعادة هيكلته من جديد .
لكن القصة العجائبية، وإن وجدت في بعض نتاجنا الابداعي، إلا أنها لم تتحول بعد الى تيار مستقل معروف في القصة او الرواية ... لكن، ورغم ذلك استطاعت ان تساهم في تطوير الشكل السردي القصصي وبعثت فيه الروح الفنية الجديدة، والابتكار من خلال العودة الى الاسطورة.
وتكمن الطبيعة الاشكالية في حل دلالة المفارقة في هذا النوع من الغموض، ومن ثم فإن فن المفارقة يتحقق حين يقال الشيء دون ان يقال، وحين يكون القصد مفهوماً دون ان يكون جلياً، وان الكشف عن المعنى الحقيقي للازدواجية الدلالية الذي يسوقه الكاتب لا ينتج عنه الغاء قوة المعنى الظاهر.
إن القصة العجائبية المحمولة على مرتكزات المفارقة، تدل على المستوى الرفيع الذي وصل اليه القاص عن معرفة عالية في التقنية القصصية، وبناء مداميك القصة فنياً حجراً حجراً، بخاصة بعد ارتقاء الاحساس الواعي بغربة الانسان، وتجاوز المألوف اليومي، المرئي، وان تكرار المتداول بين الناس، يفقد القصة جماليتها وجاذبيتها ويكسر الحلقة التواصلية بين الاشياء المتضادة المتنافرة في السرد الحكائي .
ويرى تودوروف أن العجائبي يتم بحدوث احداث طبيعية وبروز ظواهر غير طبيعية خارقة تنتهي بتفسير فوق طبيعي وفي سياق آخر ينظر الناقد «محمد ارغون» الى العجائبي، بأنه ليس سوى امتياز مؤقت لاستحضارات خيالية، مشكلاً بذلك وعاء لفكرة الخلق، مثلما هو وعاء ضروري لكل تجربة انفتاح على الذات .
باسم عبدو
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد