سامر اسماعيل:معظم الشعراء الجدد رهن لخديعة الحديث الذي أصبح قديماً

09-06-2009

سامر اسماعيل:معظم الشعراء الجدد رهن لخديعة الحديث الذي أصبح قديماً

«متسول الضوء»، عنوان المجموعة الأولى لسامر إسماعيل، صدرت مؤخرا ضمن احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، وهي من ضمن 12 مجموعة شعرية أخرى، فازت بجائزة هذه الاحتفالية. حول الكتاب، هذه المقابلة.
قبل أن ندخل إلى أجواء مجموعتك الأولى، دعنا نبدأ بمنطقة تقليدية. هل لك أن تقدم نفسك. وكيف جئت إلى الشعر؟ ما هي الأسماء التي فتحت أمامك أبواب القصيدة؟
ربما سيكون من المتعذر على أي شخص أن يقدم نفسه بالصيغة التي تجعله وجهاً لوجه مع ما يعمل ويفكر به أو ينوي القيام به فعلاً، لكن لنفرض أنني هو ذلك الطفل الذي كتب قصيدته الأولى في سن العاشرة وهذا لا يعني لي شيئاً، أكاد لا أصدق اليوم أن ذاك الطفل هو نفسه من درس الإعلام في جامعة دمشق، ويكتب الآن في الصحافة السورية والعربية.
على مستوى آخر ربما كان شغلي في الكتابة المسرحية والنقدية أحد مساربي نحو ما هو شعري، فلا أعتقد أن اللغة الصحافية هي لغة التقرير، ومن المؤسف أن نأخذ النص المكتوب في الصحافة اليوم إلى تقريرية مجدبة، يتحول فيها الكاتب إلى «كلب سيده» بتعبير نظريات الإعلام، لكن أجدني منحازا إلى الشعرية حتى في نشرات الأخبار وفي الموجزات الصحافية للأنباء لا أستطيع أن أفهم أي شيء إلا من هذا المستوى الذي تحتقره صحافة اليوم وتصمه بالتقعير الأدبي، ولذلك ومع ازدياد عدم التفكير خارج الصحافة صار من الصعب على الكتابة أن تنجو من الإفلاس والهذر، فاللهاث خلف ضد كل ما هو شعري بات مؤشراً حاسماً على انتصار لغة ثالثة يقدمها البعض على أنها بديل اتصالي مع الآخر.
أما كيف جئتُ إلى الشعر فلا أذكر أنني في يوم من الأيام كنتُ خارج الشعر أو على مسافة بعيدة عنه، إذ لا يمكنني أن أتصور أن الشعر غير موجود وعليّ الذهاب لعنده، فأنا واحد من الأشخاص الذين يظنون أن الشعر هو من اخترع العالم وهو المادة الأصلية التي يتكون منها، بل هو العالم بحد ذاته منزهاً عن كل الاستعارات الجديدة، طافحاً بالدلالة لدرجة أننا لا يمكن ولا بحال من الأحوال أن نكون خارج الكوسمو الهائل الذي يكونه، ولذلك لا أستثني من الشعر إلا الشر كونه غريباً دائماً عن مملكة الأفكار التي نحن كبشر أحد مجاهيلها اللانهائية.
أما الأسماء التي فتحت أبواب القصيدة فهي عبارة عن أصوات أكثر منها أسماء، إذ أنني اكتشفت أن الفيزياء التي خلقت العالم وجعلته على هذا القدر من الانشطار هي أيضاً وقعت بلا شك في اللامتناهي الشعري، وجعلت من الصعب عليّ أن أقول أن هناك حذوا أو قدوة شعرية، على العكس من ذلك أعتبر نفسي أحد الاهتزازات البسيطة في الأوتار الكونية لسلم الصوت، وهي إما أن تحمل الطاقة والقدرة على البقاء في المجرة الشعرية أو أن تفنى وتنمحق فلا حسرةً عليها ولا نصير لها.
كتابك الأول «متسول الضوء» صدر مؤخرا ضمن احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية. وهو كان من ضمن مجموعة (12 كتابا) فازت بجائزة هذه الاحتفالية. ماذا عنى لك هذا التمييز؟
لا أستطيع أن أسمي ذلك تمييزاً أكثر ما أشعر أنني تورطت حقيقةً بتقديم «متسول الضوء» إلى مسابقة، ولا أستطيع أن أعرف كيف حدث ذلك رغم معرفتي أنه لا جدوى من إدخال النص الشعري في مسابقة، فحتى الآن لم أغفر لنفسي تلك الرغبة في الظهور، وإلحاحي على فرصة النشر من خلال إصدارات الاحتفالية جعلت من كتابي الأول ما يشبه مادة صحفية أرسلتها لصفحة إحدى الجرائد، وهذا لن تغفره لي طريقة التفكير التي أمتلكها حول النص الشعري باعتباره بريئاً من التصفية والمفاضلة والتقدير، لكنني أشعر بالامتنان للجنة الحكم التي قدرت «متسول الضوء» أنه يستحق نيل فرصة القراءة، وفي الوقت ذاته أشعر أن إثماً ما لا يمكن غفرانه ولا يمكن لشاعر اليوم أن يتفاداه، وهو ضرورة أن تتخلى عن الشعر من أجل الشعر نفسه عندما تلح عليكَ الرغبة بأن تكون مقروءاً ومكرماً في قومك. إنه مأزق لم أحسمه حتى الآن مع النشر أو عدمه، ربما كان من الأفضل أن تقرأ قصيدتك للأصدقاء أو الأحبة، بدلاً من أن تقع مجدداً في تهمة دفتي الغلاف، أو ربما يتوجب عليك أن تشعر بالثقة التي تعطيك إياها القصيدة من غير أن تلهث وراء دور النشر والمسابقات الدورية.

هل تجد أن الكتب التي صدرت دفعة واحدة ضمن الاحتفالية، تشكل «مشروعا» لجيل شعري جديد في القصيدة السورية الحديثة؟
لا أعتقد أن هناك اليوم في سورية مشروعا لجيل شعري جديد، وإذا كان هناك من جيل شعري فأنا لا أظنه متجانساً لهذه الدرجة، ثمة مسافات كبيرة بين الأصوات التي تقدم نفسها اليوم، ثمة خلخلة واضحة في فهم الشعر وتنوع غريب ومعقد في الذائقة وفي التلقي للنص الشعري، لكنني أخال أن هناك تجارب هامة بغض النظر عنها كجيل، وهي قلقة إلى ذلك الحد الذي يجعلك مطمئناً على الشعر السوري، لكن ما يجب أن أعترف به أنني فوجئت بحدة التباين بين الكتب التي أصدرتها احتفالية دمشق، فمعظمها ينزع نحو الطرافة والافتعال والتغني بالميديا ونحو أخذ الشعر نحو الكوميديات اليومية التي لا تقدم نصاً أكثر من أنها تلح على انتزاع الإجماع القرائي، قليلةٌ هي الكتب التي ذهبت نحو أماكن مجهولة وجديدة وموحشة، وقليلةٌ هي الرغبة في حفاظ الشاعر على هدوئه أمام الرغبة الحادة لدى البعض بانتزاع الاحترام الشخصي الآني على ما يكتبه، فهناك من حسم القصة بالتفكه والتجول عبر النوادر اليومية التي لا تقترح سوى فعل السرد الأحادي لمغامراته الشخصية دون الذهاب نحو ما يكتنف هذه التجربة أو تلك من المونولوجات العميقة في النفس والتفكير، ولذلك أتت بعض النصوص لتحمّل الغرابة الكافية من أجل فرصة الظفر في مسابقة شعرية عابرة، ولا أبالغ إذا قلت إن البعض كتب «مجموعته الشعرية» خصيصاً ليشارك في مسابقة احتفالية دمشق، وهذا مالا أستطيع أن أفهمه أو أقدره، ما يدهشني حقاً هو انكباب بعض النقاد الصحافيين على تحميل هذه النصوص بما لا طاقة لها به، ولكنني لم أفاجأ لأن البعض يعتقد أن كتابة ديوان شعري أشبه بكتابة مادة صحافية رنانة، ومن ثم لا ضير من بعض النقاد الذين يأهلون ويسهلون لهذه الكتابة الماراتونية في إطار صنع الرثاثة والتساخف العلني وتناول المجموعات الإثنتي عشرة على أنها نص واحد كان مجحفاً بحق هذه الكتب التي تتنافر في المستويات والمناخات واللغة.
أمر آخر لابد من ذكره وهو أن القصيدة السورية الحديثة هي أيضاً تعاني من اكتمالها، والمدهش أن هذه القصيدة استنزفت إيقاعاتها وأجواءها ومناخاتها، ويبدو أن الوقت الآن صار مناسباً لظهور الطليعة الشعرية بعد أن خفتت الإشراقات وانعدمت تقريباً، يمكننا أن نلاحظ تلك الرغبة في كسر أوزان القصيدة الحديثة، فعدم وجود بحور شعرية لقصيدة النثر لا يعني مطلقاً أنها غير موزونة ليس في إيقاعاتها فحسب، بل في المناخات الشعرية التي تحاولها، ولهذا دخل النص الشعري في تنميطات نفسية ولغوية جعلت القصيدة «الحديثة» تعاني من قدامتها المكرورة، ومن وهم الحداثة جاءت كل الصيغ البائدة لتقول إن هذه القصيدة تحولت إلى يوتوبيا وعماء وكل ما فعلته أنها بقيت جثة متفسخة للحداثة الكلاسيكية المنقرضة، بينما بقي معظم الشعراء الجدد رهناً لخديعة الحديث الذي أصبح قديماً في حداثته.
هل الشعر هو السؤال الأبدي؟ أسوق ذلك انطلاقا من كون القصيدة عندك، تطرح العديد من الأسئلة، على الشعر وعليك ككائن، وكأن كل الأجوبة مؤجلة، أو غير موجودة؟
الشعر يتغذى دائماً من الأسئلة حتى وإن كانت غير أبدية بالمعنى الزمني لكلمة الأبد، غير أني لا أومن أن الأبد هناك، بل الأبدي هو اليوم الذي نحياه، اليوم الذي نـتركه الآن ودائماً لوهم الأبدية، والشعر لا يفعل شيئاً إزاء غروب الشمس وشروقها، بل أنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء سوى التفرس بالساعة الرملية التي تطمرنا شيئاً فشيئاً ونحن نتوهم أن هناك أبداً سينجينا من أبديته اليومية، ولذلك لا يملك الشاعر سوى وظيفته القديمة في رثاء الطلل والهوامات اللذيذة لاستمرار الحياة واستمرائها على نحوٍٍ يجعل من الكائن الإنساني مشروعاً أركيولوجياً، وفي أفضل الأحوال تمجيد الأنتربولوجيا كدين جديد لعلاقتنا مع الكون بعد أن اختفى الله المختبئ وملائكته خلف أبعد المجرات،لا يسعنا سوى الشعر للتخفف من عبء الأبدية والخوف من التلاشي والهباء في اللجة والسديم.

تفرد في قصيدتك مكانة كبيرة للمشهدية – أو لنقل للصورة، بشكل أبسط – وكأنك تريد بها أن تكون سابقة على كل ما سواها؟ إلى أي حد تصح هذه الملاحظة؟
الشعر رغم كل ما تقادم هو «التفكير بالصور» إذ لا يمكن للنص الشعري أن يتخلى عن الصورة بوصفها القدرة الوحيدة للشاعر الذي ينافس الإله على عمله، وهو بذلك يتخلى عن إبداع المادة مقابل إنتاج الصورة، لذلك لا أدخر جهداً في إغاظة المادة وفحولتها عن طريق الصورة بوصفها ظل المادة وشبحيتها اللامتناهية في وجه الهزائم التي لحقت بعالم المثل لا أجد سبيلاً إلى النجاة سوى بالتصوير التوليدي، الصورة التي تخلق صورة وتعبدها وتقدم لها كل أسباب الحياة والانتعاش والتشظي، وما الزواج اليوم بين الصورة والتكنولوجيا سوى النتيجة الحتمية لموت الإنسان الطبيعي ونهاية التاريخ على حد قول «فوكوياما» سوى إحدى الصور التي أبدعها شاعر وثني وبدائي لم نعرف له إسماً حتى الآن.
ثمة عدم أو سديم، يلف هذه النظرة الشعرية عندك، وكأن كل شيء قابع في غيابه. ماذا تقول؟
العدم والسديمية ليستا فكرتين غير موجودتين في عالم المادة الذي ننتمي إليه، فالنبتة الخجولة على شرفة المنزل لا تستطيع أن تكون سوى هذا المثال الدامغ على غيابات كثيرة، أقلها هو هذا الغياب في الحضور، كل شيء سيبدو مسحوراً وساحراً ومؤلماً ومزعجاً إذا ما تركنا أعيننا نهباً لغابات الرموز التي تحاصرنا، وسقوطنا هنا في الرمز وغيابنا عن الدلالة ليس إلا خدعة قديمة لمعنى وجودنا في المكان، المكان بوصفه زمنا، وبوصفه مضللا وعائقا، أضف إلى ذلك مناخ الأرض الثقيل الذي يحرمنا من لذة التخفف، ويقودنا لشراء الخضار وأكل اللحوم ومزاولة المهن، ولذلك ستبدو النظرة الشعرية لدي مدانة بالسديم والعدم لأنهما يشكلان ثلثي الدورة الدموية للكون، أما الثلث المتبقي فهو المراوحة الخاطفة بين لحظة الولادة والموت.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...