ظاهرة الأنهار السوداء في الريف السوري
ثمة ظواهر بيئية جديدة في سورية لعل أهمها الانهار السوداء التي انتشرت بقوة في كثير من الارجاء وغدت ظاهرة للعيان وقد احتلت ساح الانهار والسواقي!!
كيف حدث ذلك..؟ هل كان محصلة لشح المياه وتناقص كميات الأمطار عاماً إثر عام وجفاف الينابيع والآبار أم أن الواقعة نتاج زيادة سكانية كبيرة تطلبت توسعاً في السكن والزراعة والصناعة ومرافق الخدمات وقد نجم عن ذلك كله كميات كبيرة وجديدة من الفضلات السائلة والصلبة...؟
ظاهرة جديدة
إن الظاهرة التي نتحدث عنها وهي ذات تداعيات سلبية كبيرة للأسف الشديد سواء على سلامة البيئة من ماء جوفي وتربة وهواء أو صحة الانسان من خلال التماس المباشرة «رذاذ» وغير مباشر تناول الخضار والفواكة المروية بهذه المياه السوداء الآسنة، وهي جديدة لأننا- تاريخياً- لم نكن نملك في الريف الشاسع تحديداً الصرف الصحي النظامي إذ بعد التخلص من مرحلة «الجوار» راحت مياه المجارير تسيل الى الوديان أو البوادي ولأن الغزارة كانت ضئيلة جداً فإن تلك النواتج السائلة كانت تشكل مجار شحيحة لا تثير اية صعاب تستدعي الاكتراث بها، وكانت تلك المجاري أو السواقي الصغيرة تجف وهي في الطريق الى أي مصب تتجه اليه.
ولعل المشهد الآن في كل الأرجاء بات مختلفاً تماماً، ولسنا نستطيع ان نتجاهل ان الحديث عن الماضي هو حديث عن ضئيل من السكان ثلاثة ملايين نسمة في الخمسينيات وأربعة في الستينيات من القرن العشرين ثم ستة ملايين في بداية السبعينيات وفجأة أحد عشر مليوناً في بداية الثمانينيات وأربعة عشر مليوناً في التسعينيات ثم 18 مليوناً في عام 2004.
وتزداد كل عام 435 ألف نسمة بنسبة زيادة سكانية استقرت عند الرقم 2.4٪ سنوياً وبهذا المعنى فإننا الآن أي بعد عام ونصف على آخر احصاء نقترب من الـ 19 مليون نسمة وبما أننا نتضاعف مرة كل 22 سنة فيجب الا يغرب عن بالنا أننا سنصبح في العام 2026 ما يقرب من 36 مليون نسمة.
فإذا لم نضع حداً للانهار السوداء الآن فماذا سيحدث في المستقبل القريب نسبياً.
إن الواقع السكاني الراهن قاد الى غزارة غير مسبوقة في النفايات السائلة تقدر بمليار متر مكعب من المياه في السنة وإذا كانت هذه الكمية الغزيرة من المياه السوداء ملوثة للبيئة وضارة للانسان بواقعها الراهن، فإنها تصلح بعد المعالجة الحيوية والكيماوية للري ويمكن أن تسد عجزاً كبيراً في مياه الري وصل في عام 2005 الى مليار وسبعمائة مليون متر مكعب حسب تصريحات للسيد وزير الري للصحف اليومية السورية ولهذا بتنا نرى الانهار السوداء غزيرة هنا وهناك تخترق مزارع وحقول ذات زراعات متنوعة ساهمت جدياً في صنعها وأتاحت لها فرصة الوجود!!
بهذه الانهار تروى الكثير من البساتين، سواء في حلب أو الحسكة أو القلمون في ريف دمشق أو درعا أو حمص وحماه.
سد حقون القلمون !!
ولعل خير مثال على هذا الصعيد مثال سد حقون في القلمون.
لقد اقيم هذا السد في بداية السبعينيات من القرن الماضي في أعقاب سيل جارف وصلت مياهه الى حلا والقطيفة وغمرت البيوت والأراضي وأتلفت المزروعات وجرفت الأشجار والأثاث.
وقيل آنذاك، لا بد من سد يحمي القرى أولاً ويدخر الماء وهو ثروة وشاءت الصدف الا يتكرر السيل في المكان ذاته وفوجىء سكان البلدتين بنهر أسود لم يكن يمر في أراضهم سابقاً، حدث ذلك قبل عشر سنوات تقريباً وهذا النهر هو مجارير صيدنايا ومعرة صيدنايا وبدا وحفير التحتا..!!
خذوا صيدنايا على سبيل المثال، كانت قرية صغيرة من دمشق تعد مزاراً هاماً للسياحة الدينية إذ تحتوي على مقام مقدس للسيدة العذراء وأديرة وكنائس قديمة ولوحات نادرة وصور من القدس في التسعينيات من القرن الماضي شهدت تلك البلدة نهضة عمرانية كبيرة اثر توفير مصادر جيدة لمياه الشرب وجذبت المساكن الجديدة الكثير من أبناء البلدة الذين يعملوا في دمشق للإقامة مرة ثانية في بلدتهم والابقاء على اعمالهم في الشام كما جذبت شرائح مختلفة من السوريين الذين يعملون في دمشق وقد رأوا أن بيوت صيدنايا شراء واستئجاراً أرخص وأفضل فأقاموا فيها وعملوا في الشام.
ترافق ذلك مع نهضة سياحية «ملفتة» في صيدنايا إذ تم إقامة ما يقرب من عشرين مطعماً من المطاعم الكبرى ذات الخمس أو الأربع نجوم وراحت تلك المطاعم تستقطب السياح والرحلات وشرائح مختلفة من زوار دمشق ولا سيما في الصيف وأقيم في معرة صيدنايا فندق خمس نجوم وغدت بدا وهي قرية من عدة بيوت سابقاً على طريق صيدنايا- معلولا، ملاذاً لآلاف الناس الذين عثروا على سكن مريح بسعر رخيص يتيح لهم ان يعملوا في الشام وان يربحوا ولا سيما وان المواصلات غدت جيدة بين العاصمة وكل قرى ريف دمشق.
نتائج غير متوقعة
نجم عن الزيادة السكانية الكبيرة والتطور السكني وإنشاء المطاعم والمقاصف والفنادق وإقامة عشرات ألوف الناس في هذا الريف القريب من دمشق، اندفاع نهر أسود غزير لم يعد يجف في البادية بل لقد وصل الى سد حقون وقام باملائه بالماء الأسود وراح يخرج من الطرف الثاني للبحيرة النهر ذاته الأسود ليقوم بعضهم بالضخ منه لارواء أراضيهم في حين ان سكان حلا والقطيفة يخشون ان تلوث تلك البحيرة المياه الجوفية التي تضخ الى بيوتهم من آبار مياه الشرب التي حفرت لهذه الغاية ولقد قام أحد سكان حلا بتحليل المياه الجوفية فوجد ان نسبة النترات قد ارتفعت فيه 16 ملغ في الليتر صحيح ان الحد المسموح به يصل الى 50 ملغ /ل إلا ان ارتفاع النسبة الى 16٪ يعني ان عملية التلوث جارية وان المسألة موضوع زمن وحسب حتى يصبح الخطر ملموساً فلماذا نسمح بهذا الخطر غير القابل للعلاج.
نعم إنه لمن الصعب تنقية الماء الجوفي من الرواسب المعدنية وهي عندما تتراكم فيه يصبح غير صالح للشرب!!..
محطات المعالجة كالهواء تماماً
ولهذا نقول: إن محطات معالجة مياه المجارير وكل أنواع النفايات السائلة أصبحت كالهواء لنا جميعاً ونكرر إن القضية هي قضية وجود لسنا نبالغ أبداً ولاسيما أن الظاهرة عامة وتتفاقم يوماً إثر يوم. وليس خطأ أن نوقف كل شيء وأن ننتبه إلى إقامة محطات معالجة للمياه الآسنة السوداء والسامة في سياق تعاون حكومي وأهلي.
نعم يجب إقامة محطات معالجة تجعل الماء الآسن نظيفاً قابلاً للري، ولقد خبرنا هذا الحل في دمشق. إن محطة عدرا وهي تعالج مجارير دمشق توفر للغوطة والأراضي القريبة منها ما يقرب من 350 مليون متر مكعب من الماء النظيف سنوياً لإرواء 18 ألف هكتار من الأراضي الخصبة في محافظة ريف دمشق، وقد أبقت على جزء هام من الغوطة رمز دمشق بصفتها فيحاء.
ومن المؤسف أنه لا يوجد في سورية حتى الآن سوى عدة محطات معالجة فقط (دمشق، حلب، حمص، اللاذقية، حماة، السلمية) علماً أنه يوجد في سورية مئات المدن والقرى وآلاف القرى وآلاف المزارع. إن الريف السوري ولاسيما القريب من المدن الكبرى (دمشق، حلب، حمص، اللاذقية) يحتاج إلى محطات معالجة لتنقية مياه الصرف الصحي البشري حاجة الإنسان إلى الهواء.
صفحة جديدة
ولسنا نتجاهل أن ظروف سورية الموضوعية الصعبة قد منعت من الانفاق على هذا المرفق الخدمي الهام وتم غض النظر في ظروف مريحة نسبياً لم تكن الحالة السكانية فيها ضاغطة ولم تكن من الكثرة على نحو تصوغ فيه النفايات السائلة أنهاراً غزيرة!!.
أما الآن فقد اختلف الأمر تماماً، كثرنا سكانياً وكثرت نفاياتنا السائلة ولم يعد ممكناً غض النظر أبداً وبات ملحاً أن نسعى إلى محطات معالجة في الأرياف قبل المدن وإلى مشاريع تنموية كبرى تتيح لنا إرواء أراضينا بماء عذب، القضية هي وجود أو لا وجود فماذا يمكن أن نختار..!.
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد