حكايات «عادية»من غزّة: «هـل هـو حـيّ أم ميـت؟»

بعد المجزرة صارت غزة سوداء. قبلها كانت شاحبة. لا فرق، فالمشهد طبيعي، ليس بالنسبة لغزة، وإنما لكل من يشاهدها.
معروفة هي الحكاية. يوم أو يومان من الاستنكارات، وبعد ذلك تنتهي. وتصير الأرقام أكثر من عادية. فإسرائيل »بذكائها« قتلت ثلاثمئة في يومين، ومن المتوقع أن يتراوح عدد الشهداء فيما بعد بخمسين شهيداً يومياً، ولو وصل الى المئة، لظل الأمر عادياً، فالأرقام لا تعبر عن شيء، والصمت الرسمي مخزٍ، والتحرك الشعبي لا يجدي.
لكن حكاية أخرى تسود غزة اليوم. حكاية بسيطة جداً، تحمل عنوان »هل هو ميت أم حي؟«.
في ثلاجة الموتى في مستشفى الشفاء في غزة، عشرات الجثث المغلفة بالأكياس البلاستيكية حيناً، والستائر وأغطية النوم حيناً آخر. وهناك أجزاء من أجساد، أو من جسدين مختلفين على أنهما لشخص واحد. وهناك رؤوس، وأيدٍ وأرجل. كل هذا ليس عادياً بين الغزاويين، على الأقل حتى اللحظة، لأنه وببساطة لا يقود الى الحبيب الغائب الحاضر.
لم يكن بالإمكان الوصول إلى القطاع. لكن الهاتف كان كفيلاً بنقل الحكاية. علمنا أن اسمها نهاية. كانت تنطق بكلمات متقطعة. رافقها أحد الزملاء، يحاول مساعدتها. كانت تبحث عن ابنها، وزوجها، وأبيها، وشقيقها. كانت تبحث عنهم بين الركام مرة، وبين الأشلاء مرة. لم تعد تفرق بين الدم والماء والتراب. كل هذه المكونات صارت بالنسبة لها شيئاً واحداً، فنهاية تريد أن تعرف ما هي النهاية؟ هل هم أحياء؟ أموات؟ أشلاء؟ أو ببساطة: أين هم الآن؟
قال زميلنا في غزة: هذه حكاية العشرات، المشهد الجديد بين المواطنين هو البحث عن الأحباء، ولا أحد يعرف ما حل بهم. بعض الشهداء شيّعوا، ولا أحد يعلم إن كان الأحباء بينهم. وبعضهم »مغلف«، وليس فيه أية ملامح سوى الدم، وكيس كتب عليه: »مجهول رقم ١«، »مجهول رقم ٢«، وهكذا.
وهناك أكثر من ٣٠٠ مبنى منهارة، ولا أحد يعلم إن كان تحتها أحياء أو أموات. لكن ما هو معلوم أن هناك بشراً كانوا هنا للتو، وانتهوا الى مصير مجهول بمجرد القصف المفاجئ.
حكايات غزة لا تنتهي. شوارعها فارغة من كل البشر. كأن منعاً صارماً للتجول فُرض عليها. أما سماؤها فملبدة بغيوم الغبار.
الرعب والموت في كل مكان، والصمت أيضاً في كل مكان.
حكاية أخرى من قطاع غزة: إحدى النساء حشرت في مكان عملها، بعد القصف لمدة يومين، فيما طفلتها الرضيعة كانت في المنزل بصحبة عمتها. والمنزل كان قريباً من السرايا الحكومية التي قٌصفت في غزة. أما زوجها الطبيب فانقطعت أخباره، فتاهت المرأة بين ابنتها وزوجها وحياتها.
في ذروة القصف، خرجت تهذي كالمجانين، ووصلت بيتها بعد أن اغبرّ لون وجهها. وجدت ابنتها حية، فباشرت في حملة البحث عن الزوج. حاولت الاتصال بالمستشفى، لمعرفة ما إذا كان زوجها حي أيضا. كل الخطوط مشوشة بسبب رادارات خاصة ترافق عمليات القصف وتقطع الاتصالات. اضطرت السيدة لاستخدام هاتف إسرائيلي، وبعد جهد، اتصلت بأهلها في رام الله. ومن هناك ظل الأهل يتصلون بالمستشفى حتى أجابهم شخص، سألوه عن الطبيب فقال إنه بخير. خفت رعب الزوجة على أحبائها، فهم أحياء حتى اللحظة... ربما.

أمجد سمحان

المصدر: السفير