مشروع المواقف المأجورة في دمشق على حافّة الهاوية
رئيس بلدية تونس العاصمة والذي هو بمنزلة المحافظ عندنا، كان أحد الذين خالفوا نظام المواقف المأجورة في الشوارع، تماماً كما حصل مع سيارة أحد الوزراء عندنا.
فماذا حصل في كلا الحالتين: رئيس البلدية التونسي عندما علم أنّ سيارته تمّت «كلبجتها» بسبب عدم دفعه للتعرفة المفروضة، أعلن عن مؤتمر صحفي دعا إليه وسائل الإعلام المختلفة ليتباهى أمام الجميع أنّه شخصياً يفتخر بأنّ القانون يسري على الجميع وأوّلهم رئيس البلدية حينما يخطئ، وأنّه لااستثناءات في ذلك.
وعندما نتساءل عندنا: لماذا أصبح مشروع المواقف المأجورة على حافة الحاوية ومهدد بالتوقف، ولماذا فشل في دول عربية ومنها بعض الدول المجاورة، بينما كان ولايزال نموذجاً يحتذى في بعض الدول العربية والعديد من دول العالم المتقدمة، نظراً لانعكاسه على تنظيم الوقوف في الشوارع وتنظيم حركة مايسمّى بالمرور الساكن؟
لا بل إنّ انعكاسات هذه الفكرة العصرية في فرض التعرفة المالية على السيارات المتوقفة على جانبي الطرقات، لم تنعكس مرورياً ومادياً على المصلحة العامّة في الدول التي طبّقتها، بل انعكست على نفسية الناس الذين شهدوا بأم أعينهم كيف قضت فكرة استثمار الشوارع كمواقف مأجورة على المتسكعين من أصحاب السيارات والذين كان يرصفون الشوارع بسياراتهم من الصباح وحتى المساء دون ضرورة، مادام انّ الوقوف مجانياً. فأصبح صاحب الحاجةمنذ الآن فصاعداً قادراً على الدخول إلى قلب دمشق دون خوف من بعبع موقف السيارة والذي كان حتى وقت قريب مجال مساومة مع بعض النفوس الضعيفة من شرطة المرور.
ابتداءً بحكاية «كلبجة» سيارة أحد الوزراء والتي لم يرضخ سائقها للقانون الذي لم يستثن أحداً من الخضوع لهذه التعرفة والتي مآلها في النهاية إلى الدولة كشريك.
- بعد هذه القصة التي تحوّلت بسرعة إلى قضية مشابهة لما حصل في بعض تجارب الدول النامية والعربية تحديداً مع هذا الموديل الجديد من احترام القانون والنظام، كذلك فقد كانت هذه القصة بداية تهديد حقيقي لاستمرارية هذا المشروع كما قالت الشركة المستثمرة (سيريا باركينغ) في كتاب وجهته لمحافظة دمشق.
- فبعد أن بدأت محافظة دمشق والشركة المستثمرة بالتعاون مع جامعة دمشق بالعمل على إعداد بحث علمي عن انعكاسات المواقف المأجورة على نفسية وصحة السكان ومدى الراحة التي خلّفها هذا النظام على المرتادين لمحلات ومكاتب وعيادات قلب دمشق، وكذلك انعكاسها على حركة السياحة داخل البلد، فقد جاءت قضية سيارة الوزير والتي أدّت كلبجتها إلى توقيف المستثمر والتحقيق معه من قبل الأمن الجنائي، فقد بدأت مرحلة جعلتنا نتشابه فيها كثيراً مع النموذج الفاشل لهذه التجربة كما حصل في دول يصعب عليها التعوّد على الانصياع للنظام، وابتعدنا عن تجارب الدول الراقية والتي نجحت في تطبيق هذا النظام والذي عاد عليها بفوائد مرورية ومادية وبيئية ونفسية.
منذ حصول هذه الحادثة، بدأ توتر لايوحي بأنّ المشروع سائر إلى نجاح، حيث بدأ هذا التوتر بين فرع المرور وجهاز الإشراف التابع لمحافظة دمشق وبين الشركة المستثمرة، ورغم أنّ العميد فاروق موصلّي مدير إدارة المرور أكّد لنا حرص المرور على إنجاح هذا المشروع الذي اعتبره نموذجاً رائداً بدأت محافظات أخرى بالاقتداء به كما حصل في محافظة حلب، إلاّ أنّ رئيس فرع مرور دمشق العميد عيطان عيطان لم يخف في اتصال أجريناه معه أنّ ثمة ازمة ثقة حصلت مع الشركة المستثمرة التي لم تتشاور مع أحد قبل معاملة سيارة الوزير كأي سيارة اخرى متوقفة في المواقف المأجورة بحسب العميد عيطان.. فيما اعتبر طارق العاسمي مدير هندسة المرور في محافظة دمشق أنّ «لمحافظة دمشق أنّ تغيّر بعض المواقف وبنسبة 20% كما نص على ذلك العقد» معتبراً أنّ الشركة اخطأت في قرار «كلبجة» سيارة الوزير متهماً إياها بعدم التعاون مع جهاز الإشراف في المحافظة.
فيما استندت الشركة المستثمرة بحسب ما أفادتنا إلى شروط العقد والذي حددّ المواقف المأجورة متضمنة موقف سيارات الوزراء والمديرين، وأنّها طلبت من محافظ دمشق وفي كتاب رسمي بعد انطلاق المشروع بثمانية أيام التعميم على «جميع دوائر الدولة بالالتزام بشروط العقد والتوقف عن عرقلة المشروع» طالبين منه التعميم بذلك عبر السيد رئيس مجلس الوزراء للعمل على إنجاح التجربة.
- لم تكن قضية سيارة وزير الري هي الوحيدة، فقد ظهرت المشكلة ذاتها مع معاون وزير الاقتصاد ثم عدد من المؤسسات الرسمية في قلب دمشق والتي عادت إلى حجز مواقفها الخاصّة رغم أنّ محافظة دمشق كانت قد قامت بحملة واسعة قبيل انطلاق المشروع، ألغت بموجبها مايسمّى بالمواقف الخاصّة.
بعد ذلك كرّت المسبحة، لتبدأ فنادق الأربع والخمس نجوم باستعادة مواقفها والخروج عن شروط هذا العقد، ولندخل من جديد إلى عقلية الاستثناءات.
- ثم بدأت الاستثناءات الأخرى والتي أخرجت العشرات من المواقف المهمة من دائرة الألف موقف المشمولة بالعقد من دائرة الاتفاق، ويبرر ذلك مدير هندسة المرور طارق العاسمي بأنّ «الضرورات دعت لإلغاء بعض المواقف المأجورة من أمام الوزارات والمؤسسات الرسمية والفنادق التي تزيد عن أربعة نجوم» مؤكّداً أنّ المحافظة عوّضت المستثمر عن هذه المواقف المستثناة بمواقف أخرى.
وربما زادت هذه الاستثناءات من شجاعة بعض المؤسسات العامّة الأخرى أو الخاصّة على التمرّد على هذا النظام الجديد، مادفع الشركة المستثمرة لإرسال ملف كبير بالصور يحدد بشكل واضح السيارات الرسمية والخاصّة التي تخالف المواقف المأجورة أو التي تقف وترفض الدفع، هذا فضلاً عن تسجيل العديد من محاضر الشرطة ضد الشخصيات التي تدّعي أنّها مهمة وترفض الانصياع لهذا النظام المستند إلى عقد قانوني.
وفي محاولة للحد من معارضة بعض المؤسسات الرسمية للانصياع لهذه المواقف، رفع محافظ دمشق كتاباً إلى السيد رئيس مجلس الوزراء يقترح فيه «التعميم على جميع دوائر الدولة لاتخاذ الاجراءات اللازمة لاستئجار المواقف المطلوبة أمام مبنى كل مؤسسة حكومية، حسب مقتضيات المصلحة العامّة ولحظ بند لصرف أجور هذه المواقف في الموازنة العامّة العائدة لكل مؤسسة».
- سألت مدير إدارة المرور العميد موصلّي: هل توافقنا الرأي أنّ هذا المشروع قطع ارزاق بعض المستفيدين من المواقف سابقاً مثل بعض الشرطة، فلم ينفِ ذلك. ثم ذكرنا له أنّ العديد من المراسلات بين الشركة المستثمرة ومحافظة دمشق تكشف بالصور كيف يتساهل بعض عناصر شرطة المرور مع السيارات الواقفة في المواقف الممنوعة، وأنّهم لايقومون بدورهم في إلزامها بالوقوف في المواقف المأجورة.
اعتبر العميد موصلّي أنّ هذه الإشكالات ناتجة عن بداية المشروع، والذي لن يلبث أن يصبح جزءاً من ثقافة الجميع مؤكّداً الوقوف بصرامة تجاه المعرقلين للنظام المروري سواءً من أصحاب السيارات أو حتى عناصر الشرطة.
أيضاً يقرّ مدير هندسة المرور في محافظة دمشق طارق العاسمي، أنّ هذه المشكلة كانت متوقّعة، مؤكّداً أنّ المحافظة ناقشتها مع الشركة المستثمرة، وتم اقتراح صرف مكافآت لشرطة المرور المتعاونين على تطبيق هذا المشروع بشكل ناجح من خلال صندوق تموله المحافظة والشركة المستثمرة يسمّى (صندوق دعم المرور)، غير أنّ هذا المشروع واجهته عراقيل قانونية انتهت برفضه من قبل وزارة الإدارة المحليّة. - ومازاد المشروع إرباكاً وجعل الشركة المستثمرة تكشف في أحد مراسلاتها أنّ المشروع يعمل بأدنى نسبة متوقعة، هو الاختلاف في وجهات النظر بين المحافظة والشركة المستثمرة والاتهام المتبادل بعدم التعاون كماهو واضح في المراسلات بينهما، إلى أنّ تطوّرت المسألة وأصبحت خلافاً على أصل العقد الذي هو من نوعBOTحيث قامت المحافظة ودون علم الشركة المستثمرة بنزع آلتين من الآلات الالكترونية العاملة بالمشروع الأمر الذي اعتبرته الشركة المستثمرة مخالفا للعقد ومسبباً لخسائر وأعطال في الشبكة كاملة قدّرتها بأربعة ملايين ليرة سورية، فيما أجابت المحافظة بأنّ هذا الإجراء هو من صلاحياتها، وأنّها المالكة لهذه الآلات اعتماداً على ماسيكون بعد انتهاء العقد أي بعد خمس سنوات، فيما اعترضت الشركة بأنّها هي المالك حالياً لهذه الآلات.
ولاشك أنّ مثل هذه الخلافات والتعامل المتوتر والذي أوصل محافظة دمشق لمخاطبة الشركة المستثمرة وفي مراسلاتها العادية عبر الشرطة ومن خلال مايسمّى الإنذارات المسجّلة كل ذلك يوحي، أنّ ثمة تهديداً حقيقاً يواجه نجاح هذه التجربة والعودة من جديد إلى فوضى المواقف في شوارع العاصمة، كما يوحي أنّ تجربة محافظة دمشق في التشاركية مع القطاع الخاص لم تكن بالمستوى المطلوب ولن تكون نموذجاً يحتذى كما كنّا نتوقع، كما ستكون نموذجاً غير مشجّع بالنسبة للمستثمرين.
حمود المحمود
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد