الحياة السياسية في المدينة الإسلامية
أدرك المسلمون أهمية الدور السياسي في نشأة المدينة، وبلور ذلك بوضوح قدامة بن جعفر في تصوره الذي يعرض فيه كيفية نشأة المركز الحضاري إذ يشير إلى أن الإنسان له طبيعة خاصة تختلف عن طبائع المخلوقات الأخرى.
وضمن هذه المنهج تبلور قيام المؤسسات السياسية في المدينة الإسلامية، وان تميزت مدن العواصم بوجود مستويين من المؤسسات. المستوى العام للدولة التي تشكل المدينة عاصمتها، والمستوى الخاص بالمدينة كتكوين مدني فرعي ممثلاً في المؤسسات الخاصة بهذه المهمة أو تلك، كوالي المدينة وضابط الشرطة والمحتسب والقاضي، وما يعاونهم من أجهزة إدارية تتولى إدارة شؤون المدينة وتنظيم الحياة فيها.
واتصلت سلطات المدينة اتصالاً مباشراً بالدولة باعتبار أن سلطة الدولة هي مصدر هذه الولايات المختلفة من حقها التعيين والعزل ومن متطلبات الحكم والسياسة. وشكلت المدن الكبيرة مراكز إدارية لأقاليمها وتبعتها المدن الأقل في تنظيم متدرج يشمل كل مراكز الإقليم الاستيطانية. وقد يحدث أن تتبادل هذه المدن مراكز الصدارة في الإقليم من فترة إلى أخرى، ما ينعكس على وضعها الإداري والعمراني. وبذلك شكلت الأقاليم مناطق إدارية تابعة للسلطة المركزية ودواوينها في العاصمة لا سيما في ما يتعلق بالخراج والمكوس التي يتولى الولاة إرسالها من أقاليمهم إلى العاصمة.
وفي حدود هذا الإطار تغيرت النظم الإدارية وتطورت بتطور الحياة واختلاف السياسات من دولة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر، حتى تم الفصل بين السلطة الدينية والمدينة في العصر العثماني تأثراً بالاتجاهات السياسية المعاصرة.
وانعكست الحياة السياسية بأشكالها المختلفة انعكاساً واضحاً على المدينة الإسلامية باعتبارها الوعاء. فقد وجدت هذه المدينة في الإسلام دستوراً واضحاً كان عليها فقط أن تطبقه وكان السعي وراء توصيل أفكاره العامة من مهمة الفقهاء والعلماء والمفكرين الدينيين الذين حاولوا ذلك وإن اختلفت مذاهبهم. وأصبح الفقه الإسلامي منهجاً متكاملاً لشُعب الحياة الإنسانية كلها في العقيدة والعبادة والاجتماع والاقتصاد والتشريع السياسي، لأن الطور الذي وصل إليه الفقه الإسلامي في آخر مراحله كان بناء متراصاً ينظم العمران البشري وأنواع المعاملات والعلاقات الإنسانية للمسلمين تنظيماً دقيقاً، ما يعطي التشريع والفقه الإسلامي أهمية كبيرة، لأنه يتناول الحياة الإنسانية في أقصى مقوماتها حيث كانت شريعة الإسلام هي القاعدة والمنطلق الذي ارتكزت عليه حضارته، انطلاقاً من الآية الكريمة التي تقول: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، فإن المدينة الإسلامية تصهر مجتمع الناس المتساوين في الحقوق والواجبات في إطار وجود الطبقات والتقوى مقياس الأفضلية وهو مقياس ينتهي في كل الحالات لمصلحة المدينة، وفي حدود هذا الإطار يمكن مراجعة كل الآراء التي قوّمت مؤسسات المدينة الإسلامية، في إطار مقارنتها بمؤسسات المدينة الأوروبية وغيرها من الآراء التي أنكرت الكيان السياسي للمدينة الإسلامية.
أما إنشاء المدن واختيار موقعها وتوجيه العمران فيها فمن مهمات السلطة المركزية للدولة. فقد كان لتوجيهات هذه السلطة أثر واضح على كثير من المدن الإسلامية التي ارتبطت ارتباطاً مباشراً لتحقيق هدف سياسي من خلال المنهج الذي أقره الرسول (صلّى الله عليه وسلم) وأثره في عمران المدينة المنورة وتكوينها المعماري، وهو المنهج الذي أثر تأثيراً واضحاً في مدن الأمصار التي أنشئت في عهد الخلفاء الراشدين، كالبصرة والكوفة والفسطاط، ثم في عهد الأمويين، كالقيروان. وارتبط توجيه السلطة المركزية في المدينة المنورة في اختيار مواقع هذه المدن وتخطيط مواضعها وشكلها المادي بالظروف التي كانت تمر بها الدولة الإسلامية حينذاك، وكما ارتبط النمو السريع لهذه المدن بحركة الفتح الإسلامي وهجرة كثير من القبائل العربية إليها للانضمام إلى الجيوش الفاتحة.
واتجهت سياسة التعمير في هذه المدن نحو تحويلها إلى مدن مستقرة تعتمد على نشاطاتها الاقتصادية المختلفة، وانعكس ذلك على الهيئة المادية للمدينة حيث ظهر الاهتمام بزراعة الأرض وشق الأنهر وبناء الأسواق لممارسة النشاطات التجارية والحرفية. ولم تكن القبائل المستوطنة في هذه المدن قادرة جميعها على التكيف مع هذا التحول، لا سيما القبائل البدوية التي لم تكن على المستوى من التكيف مع القبائل الحضرية التي سادت بخبرتها في هذا المجال. وارتبط إنشاء مدن العواصم باعتبارات سياسية مباشرة تحقق هدف الاستقرار في فترة التأسيس وتكون منطلقاً لتحقيق الأهداف السياسية التي ترمي اليها الدولة. وفي هذا الإطار سارت مدن العواصم ابتداء من المدينة المنورة فالكوفة فبغداد فالقاهرة وغيرها من مدن العواصم للدويلات الإسلامية المستقلة شرقاً وغرباً على مدى فترات التاريخ العربي والإسلامي المتعاقبة.
وتأثر التكوين المادي لهذه المدن بوظيفتها السياسية كعاصمة للدولة، فتضمنت من التكوينات المعمارية ما يقوم بهذه الوظيفة، كالقصر والدواوين وبيوت الضيافة وما يتبع ذلك من مراسيم خاصة انعكست على تخطيط شوارع المدينة ومبانيها وأبوابها. وكان لتوفير الأمن للخليفة أو الحاكم أثر في تخطيط المدينة حتى ان مدينة كبغداد جرى توجيه تخطيطها توجيهاً خاصاً يحقق هذا الهدف. وتطور الأمر حتى انتهى إلى إنشاء ما يسمى بالمدن الملكية التي يقتصر سكانها على الخليفة وحاشيته، كالقاهرة وفاس الجديدة وغيرها.
وفي غالبية المدن أدى تحصين الخليفة أو الحاكم للمنطقة التي يقطنها بتحصينات خاصة سواء كانت المنطقة قصبة كما في مدن الأندلس أو قلعة خاصة للحاكم والإدارة الى انفصالها عن محيط المدينة أو اتصالها بها. وبجوار المدن القديمة أنشئت مراكز للسلطة، إما في داخل المدينة أو في رياض جديدة اشتملت على قصر الحاكم والإدارة والقوة العسكرية. وانسحبت على بعض المدن الإسلامية تسمية المدن الديبلوماسية ووصلت السلطة السياسية الى أقصى درجات الترف، فأنشأت ما يطلق عليه مدن المتعة كمدينة الزهراء. وانعكست سياسة العمران على المدينة الإسلامية انعكاساً مباشراً، فقد دعا الإسلام إلى حفظ الدين والنفس والمال والعرض، وهي أهداف تساعد على تحقيقها عمارة المراكز الحضارية بسياسة خاصة تحقق هذه الأهداف، ومن ثم قسمت البناء، في ضوء القانون الإسلامي، إلى بناء واجب الإنشاء كالمساجد والحصون والأسوار والجسور والقناطر ودور العلم، والموانئ وبناء مباح كالمساكن والحوانيت، وبناء محظور كالخانات والمخور ودور البغاء وغيرها.
لقد ارتبط اختيار موقع المدينة الاسلامية بالظروف السياسية التي صاحبت إنشاء كل منها، ويتضح ذلك من مراجعة العوامل التي وجهت إلى اختيار مواقع مدن الأمصار ومقارنتها بالعوامل التي وجهت اختيار المدن الإسلامية الأخرى. فالظروف التي كانت وراء اختيار موقع القيروان هي غيرها التي كانت وراء اختيار موقع المهدية، كما أن الدوافع التي أدت إلى إنشاء المنصور مدينة بغداد رغبته في تأمين الدولة الناشئة مما قد تتعرض له من أخطار واختيارها وسط العراق قريبة من الفرس بعيدة من دمشق ذات الولاء الأموي. كما ان السياسة الاقتصادية أثرت أيضاً في تحديد موقعها بدقة. وقد رأى المنصور ضرورة اتخاذ حاضرته الجديدة وسط أراضٍ خصبة يرويها ماء دجلة والجداول التي تأخذ ماءها من الفرات، وفي مكان تسهل فيه المواصلات بين أجزاء دولته وتتوافر فيه سبل المعيشة، لذلك أوفد رواداً يختارون له مكاناً يبني في حاضرته الجديدة فدلوه على موضع قريب من الموصل فخرج إليه في جماعة من رجال بلاطه وبات فيه ولما أصبح سأل رجاله عن رأيهم في هذا المكان فذكروا له طيب هوائه وجودة غذائه، فقال ولكن لا مرفقة فيه للرعية. وذكر لهم أنه قد مر في طريقه إلى هذا المكان بمكان تجلب له المؤن في البر والنهر ويصلح لحاضرة ملكه إذا استطاب هواءه. ثم رجع المنصور إلى هذا المكان فأقام فيه يوماً وليلة، وكان ذلك في فصل الصيف، فأعجبه هواءه ووجد فيه المكان الذي يفي بأغراضه.
وهذا التحديد يكشف عن منظور سياسي ناضج أراد الخليفة المنصور من خلاله أن يحقق فيه مصالح الدولة والرعية الذين هم في النهاية الحجر الأساس في تطور عمران مدينته وعاصمته الجديدة وتأمينها من الأخطار.
وكان للأوقاف دور مهم وبارز في عمران المدينة الإسلامية، فهي من جهة تساعد على بناء المنشآت الدينية الموقوفة لأغراض مختلفة بعضها ذو مغزى سياسي وبعضها ذو مغزى ديني. كما امتد أثر الأوقاف على النواحي الاجتماعية والتعليمية والدينية. ويعكس تاريخ المدينة السياسي تجارب متنوعة لحل مشكلة التكيف الاجتماعي والسياسي. وكانت البداية بعد هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمهاجرين إلى المدينة المنورة وتوطن هذه الجماعات المهاجرة في المدينة. واتبع الرسول سياسة حكيمة عملت على تذويب العصبيات القبلية، كما عمل على إيجاد إطار جديد من التعاون والتناصر بين المهاجرين والأنصار في مجتمع سياسي جديد ارتكز على مبدأ الأخوة الدينية، ما ساعد في تذويب النزعة القبلية، فكانت دولته الفتية في مجتمع المدينة السياسي باكورة لاتساع الدولة العربية الإسلامية المترامية الأطراف ومنطلقاً لتحديد معالم الفكر السياسي الإسلامي الجديد.
أنيس الأبيض
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد