سعاد جروس: شكراً رويدة الجراح
الجمل- سعاد جروس: على الرغم من كل ما قيل ويقال من انتقادات ومدائح لمسلسل €باب الحارة2€ لا يمكن تجاهل أن نجاحه الشعبي الكاسح عربياً ومحلياً أحدث صدمة في أوساط السوريين, دوختهم وقسمتهم إلى حارتين إما مع €حارة الضبع€, وإما ضدها €حارة أبو النار€, وعلى الأرجح أن لا استفاقة لنا من هذا التخندق الدرامي قبل أن يهل هلال €باب الحارة 3€ المنتظر على أحر من الجمر.
فأهل حارة أبو النار المناهضين للمسلسل يتوقعون من باب التمني سقوطاً مدوياً للجزء الثالث, وحينها لن يوفروا أدوات النقد الجارح لأخذ ثأرهم من نجاح جاء خلاف الطبيعة من وجهة نظرهم. أما أهل حارة الضبع المسحورون والداعمون لسيرة المضبوعين في التاريخ, فهم يحلمون بدفقة متعة جديدة تشحنهم بالطاقة اللازمة للدفاع عن ذائقتهم الفنية, والثأر لاتهامهم بالانصياع الغيبي والحنين للتخلف, واعتبارهم يجهلون ما يشاهدون.
ومع أنني أميل للوقوف مع فريق €أبو النار€ ضد المسلسل, إلا أن الرأي الذي سمعته من المخرجة المخضرمة رويدة الجراح, جعلني أعيد النظر في رأيي الشخصي بالعمل وكل الآراء الأخرى الرافضة لما حمله من مضامين, وإعادة النظر هنا ليس لتغيير رأي أو لمعاكسة تلك الآراء, وإنما لتوسيع زاوية الرؤية, وتفادي الوقوع في فخ النقد الصحفي الانطباعي الذي يسم غالبية صفحاتنا الثقافية والفنية العربية, حيث تبنى مقالات انتقادية على أساس النسف والتدمير, فتشطب نتاجاً ثقافياً بكامله بناء على نكشة صغيرة أو هفوة التقطها حس اصطياد €الفاينة€ الفطري في نفس كل صحفي.
فما قالته المخرجة الجراح في دردشة سريعة معها ألقى الضوء على السر الفني في نجاح باب الحارة دون غيره من عشرات الأعمال التي عرضت في رمضان, رغم كل ما فيه من ثغرات ومعاناته من التقشف الإنتاجي, بل وضعف مستواه من حيث المضمون والحبكات الدرامية قياساً إلى أعمال من القماشة ذاتها للمخرج ذاته بسام الملا!! حسب قولها, أدهشها الإخراج من ناحية الإيقاع السريع للمشاهد, وحركة الكاميرا المنسجمة مع دوزان المونتاج, بالإضافة إلى ذلك الخيط الواهي داخل العمل الذي يحرك الحلم في نفوس الجماهير المسلوبة عموماً للتعلق ببصيص أمل مهما كان ضعيفاً؛ تكاملت هذه العناصر في وقت تعاني فيه كثير من الأعمال الدرامية العربية من المطمطة والبلادة في حركة الكاميرا ناهيك عن غياب الخبرة والإبداع في الإخراج, في زمن يشكو الجميع الملل من الشعارات والوعود, وبات يبحث عن أي شيء يأخذه بعيداً عن واقعه نحو زمن متخيل, وهذا لم يكن ليتحقق لولا الإيقاع السريع للإخراج المنسجم مع سرعة هذا العصر.
أرجو أن أكون قد نقلت فحوى رأي المخرجة الجراح بأمانة, ولتعذرني إذا لم أتقيد بحرفية ما قالته, فهذا ما وصلني من دردشة عابرة كان لها الفضل في دفعي نحو التأمل بطريقتنا الصحفية في النقد, والبحث عن الأسباب التي تجعل صفحاتنا الثقافية لا تعكس واقع الحراك الثقافي على الأرض, فالمتابع لتلك الصفحات لا بد سيصاب بأنفلونزا التشاؤم, جراء واقع ثقافي ضحل ومتكلس, تعبر عنها كتابات عدد غير قليل من الصحفيين وفدوا إلى الصحافة عن طريق هواية الأدب, فأمسكوا بخناق الصفحات الثقافية ليحولوها إلى ساحة معارك هم طرف فيها, يعلون شأن من يشاؤون ويحطون شأن من يشاؤون, وفق ما يقتضيه هواهم الإبداعي وغير الابداعي, مع ترك فسحة غير ضئيلة لتبادل المجاملات الثقافية على مبدأ €حك لي لأحك لك€, في غياب فاضح للتحقيقات الثقافية الميدانية, التي ترصد الآراء المختلفة والمتعددة في أي تظاهرة او نشاط او قضية ثقافية. فالمسرحية والفيلم والمسلسل التلفزيوني والقصة والرواية والشعر جميعها يتم تغطيتها بنوع صحفي واحد وهو مقال €الرأي€ وفي حال أرقى ونادر €تحليل نقدي€, تعبر عن رأي الصحفي كاتب المقال وحسب, وما على القارئ سوى تلقي هذا الرأي بتسليم مطلق, لاعتقاده أنه لن يكون افهم من المثقف المطلع الذي كتبه.
لذا لا عجب أن صفحاتنا الثقافية لا تقرأ إلا من قبل المثقفين الباحثين عن أسمائهم في تلك الصفحات, ولا عجب أن تدور تلك الصفحات في فلك آخر غير فلك الواقع الثقافي على الأرض, ولا عجب أيضا أن تبدو حياتنا الثقافية ميتة بينما تعج الصالات بالأنشطة الثقافية من كل نوع, ومن شاء أن يتابع يستحيل عليه حضور ربعها. وللعلم نادراً ما كانت الصالات فارغة وبالأخص الأنشطة التي تدعو إليها جهات أهلية, لا شك في أنها تنطوي على أخبار وقصص وقضايا مثيرة تصلح مجالاً لتحقيقات ميدانية تسبر عمق هذا الواقع وتكشف زواياه المظلمة, بعيداً عن الآراء الأحادية المسبقة الصالحة للإطلاق على أي نشاط في كل زمان ومكان.
من هنا يمكن فهم الأسباب التي تجعل الغرب يهتم بتدريب صحفيينا على الاستطلاع الميداني, في الدورات المتبرع بها ضمن برامج التنمية الإعلامية في الشرق الأوسط, لأن التحقيق الميداني هو الطريقة الأفضل لرصد وفهم ما يجري. لكن في بلاد مثل بلادنا العربية ينطبق على مثقفيها وصحفييها ما قاله رحمة الله عليه الرئيس شكري القوتلي «شعبنا نصفهم أنبياء ونصفهم الآخر عباقرة».
من هذا الجانب, نرى من الصعب ازدهار التحقيق الميداني, لأنه وببساطة شديدة إذا كان الصحفي الثقافي يعتقد ان رأيه جامع مانع, كيف سيتنازل ويستفسر عن رأي الآخرين؛ الآخرين بما معناه جماهير المتلقين العاديين والخبراء على حد سواء؟ ولعله من المفيد هنا تذكر نصيحة أبي حيان التوحيدي في طلب الحق وتوخي الصواب القائلة «وليس الحق شخصاً في محل يطوى إليه, فلا تزو وجهك عن اللفظة السخيفة والكلمة الضعيفة فإن المعنى الذي فيها فوق كراهتك, وليس العالم تابعاً لرأيك, ومحمولاً على استحسانك واستقباحك, بل يجل عن مقاحم فكرك, ويعلو على غايات فهمك, فإنك ترى لنفسك محلاً لست به فتقول: هذا حسن, وهذا قبيح, دون أن تقف على حقائق ذلك الحسن والقبيح بعقل ما شابه الهوى... هيهات وأنت متراد بين غالب عليك, وقادح فيك, وآخذ فيك وهابط بك»... شكراً رويدة الجراح, رأيك فتح عينيَّ على رأي آخر, في ما لا خبرة لي فيه, حتى لو لم أغير رأيي بدراما المضبوعين.
بالإتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد