لا شيء يعمل في الصومال إلا ثلاثة«القات» والموبايل والتحويلات
في شارع مترب يمر عبر هذه المدينة التي يقطنها 80 ألف شخص في وسط الصومال، تجلس مجموعة من الرجال على مقاعد منخفضة يمضغون الأوراق الخضراء لمخدر متوسط يعرف باسم القات. ويبدو عليهم الكسل والتخدير، ولا يهتمون بما يدور حولهم، إلا عندما تدق هواتف الجوال التي يحملونها ـ وهو مشهد سيريالي في هذا المكان البدائي ـ تدب فيهم الحياة مرة اخرى. فيرتبون عمليات تحويل الأموال التي ينتظرونها ثم يعودون مرة اخرى الى حالة النعاس.
لا شيء يعمل في الصومال ـ لا مياه الشرب ولا الصرف الصحي، ولا الشؤون الصحية ولا التعليم. ولكن بالرغم من غياب بنية الدولة ـ او ربما لعدم وجودها ـ تعمل 3 أشياء بسهولة مثيرة للدهشة، تجارة القات ونظام فعال لشبكات الهاتف الجوال، وعمليات تحويل العملة الدولية.
مرحبا بالتناقض الذي هو دولة الصومال «الفاشلة»؛ فهذه الدولة بعدد سكانها البالغ 9 ملايين في القرن الافريقي لم تشهد حكومة عاملة منذ يناير(كانون الثاني) 1991، عندما جرى إسقاط محمد سياد بري على يد أمراء الحرب في البلاد. وخلال 16 سنة ماضية، عانت البلاد من نزاع دائم بين العشائر. وحاولت الولايات المتحدة إنهاء الفوضى في التسعينات وفشلت. وجرى تشكيل حكومة فيدرالية قبل ثلاث سنوات واستقرت في بايدوا في وسط غرب الصومال. وفي ديسمبر(كانون الأول) الماضي وبمساعدة خارجية انتصرت على المسلمين المتطرفين الذين حكموا القطاع الغربي والأوسط من البلاد لمدة 6 اشهر، بموافقة ضمنية من واشنطن، التي نظرت لمثل هذه الخطوة كجزء من «الحرب العالمية ضد الإرهاب»، وطردت القوات الإثيوبية اتحاد المحاكم الإسلامية من مقديشو. ومنذ ذلك الوقت تدور حرب عصابات – بمتفجرات على الطرق ومدافع هاون وعمليات انتحارية ـ في العاصمة، بلا نهاية في الأفق.
وبالرغم من الدماء التي تسيل، هناك بعض الأشياء تعمل. الاستيراد والتوزيع الداخلي للقات، القادم من كينيا استمر رغم كل فترات «الدولة الفاشلة» فيما عدا الفترة ما بين يونيو(حزيران) إلى ديسمبر 2006، عندما أدار اتحاد المحاكم الإسلامية البلاد؛ فقد حظر الإسلاميون القات، والكحول والسجائر، مما ادى الى احتجاجات. ولكن اتضح انه ليس من الممكن فقط على الصوماليين عدم تخزين القات، ولكن كل الاشخاص الذين تحدثت اليهم اتفقوا على انها كانت اول فترة سلمية في مقديشو منذ 1991. وقالت النساء ان أزواجهن بدأوا في العمل بعد الظهر.
والقات الذي يشبه تأثيره الامفيتامين، وهو مادة مخدرة ولكنه ليس ممنوعا في الصومال. ويصعب علي كعاملة في مجال المساعدات الإنسانية مدح قطاع القات، ولكن لا يمكنني الإعجاب بدقة عملياته. فالرحلات الجوية لمنظمات الاغاثة مثل تلك التي اعمل بها عليها تعديل برامجها بصورة متكررة طبقا للرحلات الجوية، ولكن الطائرات التي تستخدم في استيراد القات تهبط بدقة بالغة تكاد تضبط ساعتك عليها. ونحتاج إلى حرس مسلح لحمايتنا في رحلاتنا، ولذا علينا استئجار سيارة اخرى لنقله. ولم نحصل على سيارتنا الاضافية الفاخرة في وقت محدد. وبالمقارنة فإن سيارات حراسة قوافل القات تصل في وقتها بالضبط.
وفيما يلي طريقة عمل شحنات القات: ففي كل يوم، تهبط طائرات شحن ضخمة من كينيا: ثلاث طائرات في مقديشو، اثنتان هنا في قالكايو وواحدة في الجنوب في بلدة كيسمايو. وبمجرد هبوط الطائرة في قالكايو، ينقل معظم القات الى 5 سيارات تتجه شمالا نحو بوساسو ـ وهي بلدة على خليج عدن – تحت حراسة مسلحة. ويطلق على السيارات وهي من طراز «تويوتا» «الصواريخ» بسبب السرعة التي تسير بها. ويعني برنامج التوزيع توقف الحياة لعدة ساعات في اماكن متعددة. ويبدأ تخزين القات بعد الساعة العاشرة صباحا في قالكايو والواحدة بعد الظهر في غارو على بعد 180 ميلا شمالا وفي الساعة الرابعة بعد الظهر في بوساسو.
والرجال فقط هم الذين يخزنون القات، ولكن البيع بالقطاعي ـ وبالجملة ايضا في قالكايو ـ هو تخصص النساء. وهو عمل جاد؛ فحزمة من القات تساوي 10 دولارات (متوسط الدخل 130 دولارا في السنة.) وإذا ما جرى الشراء بالشلن الصومالي فيحتاج الامر الى كيس من اكياس التسوق.
والقات مادة مخدرة معتدلة، ولكن ادمانية للغاية. والادمان الصومالي الآخر هو الهواتف الجوالة. فهو في كل مكان. ولكن شبكة الاتصالات غير موحدة. فانتماؤك القبلي يحدد شيفرة منطقتك؛ ففي غالكايو، توجد شبكتان (لا يمكن الاتصال فيما بينهما) تعكس التقسيم العشائري الذي يجري عبر المدينة من الجنوب، حيث يبدأ رقم الهاتف بـ 4 وفي الشمال حيث يبدأ برقم 7.
وفي قرية دوكول، على بعد 60 ميلا جنوب قالكايو، يوجد بها برج للهاتف الجوال، وهو رمز الحداثة الوحيد فيها. وقال شخص يملك هاتفين جوالين احدهما يبدأ برقم 4 والآخر برقم 7 انه يتوقع هاتفا ثالثا. وحاولت تخيل ميزة ذلك: سيتمكن سكان القرية البالغ عددهم 3 آلاف شخص من الاتصال بأبناء عمومتهم في مين والشكاوى ـ بسعر لا يزيد على 45 سنتا للدقيقة الواحدة ـ من الافتقار الى مراحيض في دوكول. وسيصبح في إمكانهم ارسال رسائل نصية الى اصدقاء هاجروا للسويد، يصفون فيها تدهور قطعان الجمال والأغنام بسبب عدم وجود آبار مياه في دائرة قطرها عدة مئات من الاميال، او التقاط صورة رقمية بالهاتف لبركة متسخة.
وربما يوجد في الصومال اتصال لاسلكي، ولكن لا يوجد للعديد من سكانها اماكن لقضاء الحاجة ولا مياه شرب. وطبقا للبنك الدولي فإن الصومال بها 1.5 هاتف جوال لكل شخص اكثر من جيبوتي وكينيا وإثيوبيا، إلا ان ثلث الصوماليين فقط لديهم مياه شرب نقية. وخلال جولة ميدانية لإعداد تقرير عن مياه الشرب والصرف الصحي، القيت نظرة على بئر جاف في معسكر لسكان مقديشو المشردين. وأحاطت بي النساء يحملن جيركان وهو أمر لا يحتاج لتفسير.
وبعد فترة التقيت مع رئيس لجنة المعسكر، الذي اشتكى من عدم وجود مدرسة وتسهيلات صحية للمشردين. وخلال اقترابي من المعسكر، لاحظت انه يحمل هاتفا جوالا أفضل من ذلك الذي اشتريته للتو الذي يمكنني من الاتصال بعديد من شبكات الهاتف.
وبدا لي الأمر متناقضا لأنني تصورت ان هذا الرجل يحصل على دخله في معسكر للمشردين. لكنه اوضح لي ـ معظم دخله يأتي من تحويل العمل من زوجته، وهي لاجئة في نيروبي. وتجدر الاشارة ان الأموال القادمة من الخارج هي المصدر الأساسي للدخل لعديد من الصوماليين، وتعمل شبكة تحويل العملة بطريقة جيدة للغاية. فقد كشفت دراسة للبنك الدولي حول الصومال، بعنوان «الفوضى والاختراع»، نظام الحوالات، وهو نظام لتحويل العملة يعتمد على الثقة، يستخدم في عديد من الدول الاسلامية، ينقل ما بين نصف مليار الى مليار دولار للصوماليين كل عام.
وإذا كان في امكان الصوماليين تسليم القات في وقته، وتأسيس نظام للهواتف الجولة يغطي البلاد لتنظيم وتوزيع نظام لتحويل العملة، فلماذا لا يمكنهم إدخال المياه الى بيوتهم وبناء مراحيض؟ ومن البسيط تحميل المسؤولية على القات. فأعمال البناء والتنمية تحتاج الى حد أدنى من الوحدة والمصالحة. ولكن هل ذلك ممكن بين الصوماليين؟ فقبل شهر اجتمع 1300 شخص من قادة العشائر وزعماء الحرب من أجزاء عديدة من البلاد في مقديشو. ولا يزال مؤتمرهم ساريا، ولكن التأثير الأساسي حتى الآن يبدو في الزيادة الحادة في اعمال العنف في العاصمة وعمليات فرار السكان بطريقة لم يسبق لها مثيل منذ ايام دكتاتورية بري.
انا هوسارسكا
مستشارة للشؤون السياسية في لجنة الإنقاذ الدولية
المصدر: الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد