"مشهد عابر"رواية عن العوالم الخفية للسلطة ورجالاتها و"نساءاتها "
بطل رواية «مشهد عابر» للروائي السوري فواز حداد (دار رياض الريس 2007) أحمد ربيع يبدو أنموذجاً للفرد الحديث الذي يقف ضعيفاً وعاجزاً أمام مؤسسة ضخمة (دولة، سلطة، مجتمع، منظمات... كلية القوة، تسحقه، وتدفعه نحو مصيره المحتوم، غير قادر على إبداء أدنى درجة من درجات المقاومة. في غضون ذلك يتسلل الشك إلى قلب كل من أحمد ربيع والقارئ معاً: هل ما حدث (على مدى صفحات الرواية) هو واقع أم كابوس فظيع؟ أم الاثنان معاً؟ هل الراوي هو مؤلف مسرحي آخر يعرض ثمرات خياله أمام الجمهور، وهل كاتب الرواية هو مخرج هذه المسرحية الكابوس؟ تذكرت، بعد انتهائي من قراءة الرواية، رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم. الجو الكابوسي نفسه، المصير المأسوي نفسه بالنسبة لكلا البطلين، والالتباس نفسه بين الأحداث المتخيلة وقرينتها الواقعية. بطلا «اللجنة» و «مشهد عابر» مثقفان خارج النظام، ليست لديهما بيئة تحميهما من مخاطره، وفي حين يتشابه مصيرهما أيضاً بالعقاب الرهيب لأنهما «عرفا أكثر مما يجب»، يختلفان في الأمور الأخرى: بطل «اللجنة» يطمع في الدخول إلى عالم «النظام» لتحقيق مكاسب، ويتحمل في سبيل ذلك كل الإذلالات المطلوبة منه؛ أما أحمد ربيع، فهو لا يريد لنفسه شيئاً، بل هو من النوع المكتفي بحياة الحد الأدنى حفاظاً على كرامته. لكن «القدر» المحتوم لا يوفره، يدخله في المحنة من دون إرادته. بل على العكس، كان موظفاً في مؤسسة حكومية (صحيفة) غادرها بملء إرادته. في تلك الصحيفة عمل أحمد في القسم الثقافي، وكلف ذات مرة بالكتابة عن عرض مسرحي. بعد ذلك احترف كتابة النقد المسرحي، وأصبح هذا عمله الوحيد. فبعد استقالته من الصحيفة وتوقفه عن كتابة النقد المسرحي لم يمارس أي عمل آخر. في بيئة عمله هذا أقام ذات مرة علاقة عابرة مع ممثلة مبتدئة. وكانت تلك خطيئته الوحيدة، التي ستقوده، إلى المحنة الكابوسية التي ستحرّف مسار حياته بلا رجعة. من هذا المدخل الفانتازي، يكتشف أحمد ربيع العوالم الخفية للسلطة ورجالاتها و «نساءاتها» أيضاً، ممن يمتطون الفرص ليسخروها لخدمة مصالحهم في المال والجاه والسطوة و «ما ملكت أيمانهم وأيسارهم». يعرف أحمد ربيع أكثر مما يجب، ويدفع الثمن غالياً جداً. لكن القارئ – السوري خصوصاً – يتعرف في الأحداث والشخصيات الروائية على كثير مما يعرفه وممن يعرفهم في الحياة الواقعية، فضلاً عن العناصر التي أراد المؤلف تقديمها بما يطابق معادلاتها الواقعية، كالمكان والزمان: هذه مدينة دمشق، وهذا مسرح القباني، وهذا شارع 29 أيار. وتغطي أحداث الرواية، بما في ذلك القصص الفرعية، زمناً مديداً يمكن قياسه بالعقود. وأقرب تواريخها يتقاطع مع زيارة البابا يوحنا بولص الثاني لدمشق في العام 2004. ويجب أن نسجل لفواز حداد أن هذه التمثيلية العالية للواقع لم تبلغ حداً يسيء إلى دور الخلق المبدع للأحداث والشخصيات، ولا إلى البناء الفني العالي. فالشخصيات، مهما تشابهت مع أشخاص واقعيين، هي ثمرة خيال مبدع أجاد رسمها وتطويرها بصورة متصاعدة مع وتيرة الأحداث. وهذه الأخيرة اختارها بعناية من بين ملايين الوقائع الحقيقية المشابهة، وركبها بما يخدم السياق الفني، فقدّم في النهاية، نماذج تخييلية عن أحداث واقعية، هي، بطبيعة العمل الروائي، قليلة بل معدودة، تمثل كثرة غير محدودة. أليس الفن، في معنى من المعاني، استخلاص صور واضحة من سديم الواقع اللامتناهي، وتركيبها في «مونتاج» ذي معنى؟
بكر صدقي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد