المناعة المعرفيّة

29-09-2024

المناعة المعرفيّة

د. عمار خيربك:

في مقابلة تلفزيونيّة قديمة تعود إلى عام 2019، اقترحت مفهوم "المناعة المعرفيّة"، وذلك للتعبير عن تلك القوة الذهنية التي نحتاجها جميعًا لمواجهة هذا الطوفان من المعلومات المضلّلة والأخبار الكاذبة، التي تجتاح وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي يوميًا.
يحتاج العقل البشري إلى دفاع، أشبه ما يكون بالدفاع الذي يُقدّمه الجهاز المناعي ضد الفيروسات. فكما يميّز جهاز المناعة بين الخلايا الصحيّة والخلايا المهاجمة، يتعيّن علينا أن نطوّر قدرة عقليّة تُمكّننا من فرز الأخبار الحقيقية عن الزائفة، والمعلومات الموثوقة عن تلك المضلّلة.
أعتقد جازمًا أنّ التفكير النقدي هو جوهر هذه المناعة المعرفية، إذ لابدّ أن نُعلّم أنفسنا وأجيالنا القادمة ألّا نقبل كلّ ما نقرأه أو نسمعه، بل نضعه تحت مجهر التحليل، نسائل مصادره، ونفحص مصداقيّته. وليس هذا فحسب، بل علينا أن نُكوّن علاقة واعية مع مصادر المعلومات؛ نعرف ما هو الموثوق منها، ونكون على دراية بمناطق التضليل المحتملة، حتى لا نكون ضحايا للتلاعب الإعلامي أو الذباب الإلكتروني.
تكمن خطورة الذباب الإلكتروني في قدرته على خلق واقع زائف، يختلط فيه الدقيق بالمشوِّش، ويسهل فيه تضليل الجمهور. ولهذا السبب، فإنّ تعزيز المناعة المعرفية هو واجبٌ جماعي لحماية المجتمع من الفتن والصراعات. يجب أن نرفع مستوى الوعي، بحيث يمتلك المتلقّي الجرأة على التمهّل، وعدم الانسياق وراء كل خبر أو معلومة دون التحقّق منها. فهذه هي الوسيلة الوحيدة لصدّ هجمات التضليل التي تهدّد استقرارنا الفكري والاجتماعي.
أرى أنّ بناء هذه المناعة المعرفية يبدأ من التعليم، وكان يجب أن يبدأ منذ زمنٍ بعيد، وذلك بضرورة إدخال مفاهيم التفكير النقدي، والتحليل العلمي في المناهج الدراسية، مع الابتعاد عن الفكر الغيبي والأسطوري. نحتاج إذًا إلى أن نُعلّم أنفسنا وأطفالنا كيفيّة التمييز بين الحقائق والأكاذيب، وكيفيّة استخدام أدوات التكنولوجيا بنحوٍ يجعلها عونًا لنا في مواجهة هذا التضليل المتعمّد.
ولعلّ هذه المناعة المعرفيّة، ليست مجرّد وسيلة لحماية الفرد، بل هي سلاح للمجتمع ككلّ، لبناء وعيٍ جماعيٍّ قادرٍ على مواجهة التحديّات المعاصرة. يجب أن تكون بذرةً لثقافة جديدة: ثقافةٌ تُعزّز مناعة العقول، وتفتح أمامها آفاق التفكير المستنير، حتّى نصل إلى مرحلة يكون فيها كلّ فردٍ بمفرده قادرًا على رفض التلاعب، وعلى بناء واقعه بنفسه بناءً على الحقائق لا الأوهام.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...