مُتلازمة إيران في سوريا
كانت إيران، من منظور دمشق، البلد الوحيد تقريباً الذي أمكنها الركون إليه، في أكثر لحظات الحدث السوري صعوبة و”لا يقينية”. لكن تطورات الأزمة في سوريا والتفاعلات ذات الصلة في الإقليم والعالم كشفت عن تحديات في الموقف لم تكن ظاهرة بالشكل الذي تبدو عليه، بعد مضي ما يقارب العقد ونصف على الحدث السوري. مثلما كانت إيران أحد “عوامل الثبات” لدمشق في بدايات الحدث/الحرب في العام 2011، أخذ وجودها ودورها في سوريا، يُمثّل إحدى “القضايا الإشكالية” في مقاربات ومشروعات الحل/التسوية فيها، من منظور عدد من الدول في الإقليم والعالم، بما في ذلك روسيا.
ولو أن الأطراف ليست سواء. إذ أن المشهد في سوريا لا يسير على ميزان وتقديرات أحد تقريباً. والجميع يشعر أن ثمة أمور يجب مراجعتها أو الدفع من أجل التغيير فيها. ويبدو أن هذا “الجانب الإشكالي” يظهر بشكل متزايد داخل كل طرف أيضاً، أي في سوريا وإيران نفسيهما، ليس التكوينات والقوى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها فحسب، وإنما بيروقراطية الدولة وبعض مستويات صنع القرار أيضاً.
وأثارت العلاقات بين البلدين الكثير من القراءات والتقديرات، وبخاصة في سنوات الحرب السورية. غير أن ذلك بمعظمه يتسم بـ”السجالية” و”الضدية”. ومن الصعب التوصل إلى “تقييم موضوعي” للعلاقات بين البلدين، بسبب التجاذبات والتحيزات الكثيرة التي تحيط بها أو التي تحكم مواقف مختلف الأطراف تجاهها.
ومن النادر أن يقع القارئ على قراءات متوازنة بهذا الخصوص. وعندما تحتدم الأمور تكون “الموضوعية” أول الضحايا. من المتوقع أن تقاوم دمشق وطهران الضغوط المتزايدة لـ”تفكيك” علاقاتهما، لكن ليس “مراجعتها” بقصد “تكييفها” مع طبيعة التحولات في المشهد السوري وتداخلاته الإقليمية والدولية مدارك التهديد-الفرصة نظرت إيران للأزمة في سوريا بوصفها “تحدياً وجودياً” لها، الأمر الذي يُفسّر استعدادها لتقديم الدعم العسكري متعدد الأنماط والأشكال في مختلف جبهات القتال في سوريا، والانخراط النشط والفعال في الحرب، وكانت كثيرة ومعقدة. وهذا دورٌ “لا يُقدَّر بثمن” بالنسبة لدمشق. ولو أن دمشق قدمت دعماً “لا يُقدَّر بثمن” أيضاً لإيران في السنوات الأولى للثورة الإيرانية وحروبها المعقدة مع العراق في ثمانينيات القرن العشرين.
ولعبت دمشق دوراً مهماً في “ضبط” التوترات بين إيران وعدد من الدول العربية، وبخاصة في منطقة الخليج. لكن “مدارك التهديد” لدى إيران بشأن الأزمة السورية، كانت “ممزوجةً” بـ”مدارك الفرصة” أيضاً. وبعد فترة قصيرة من الحرب السورية، ربما قَدَّرَت إيران أن بالإمكان “إعادة تعريف” الموقف بينها وبين سوريا باعتبار خبرة الحرب ومداركها، قُل ضغوط الحرب بالنسبة لدمشق، والصحيح بالنسبة لإيران أيضاً. وظهرت تقديرات متزايدة بأن لدى إيران “رهانات أخرى” تحاول مباشرتها والتهيئة لها في سوريا، قد لا تكون متوافقةً بالتمام – أو ليست متوافقةً بالمرة بنظر البعض في سوريا وخارجها – مع توقعات وتقديرات السوريين: اجتماعاً واقتصاداً وثقافةً وسياسةً، ومكانة ودوراً.
التفكير في العلاقة مع إيران؟ وهكذا فإن جانباً من هواجس السياسة لدى شريحة من السوريين، وهذا مجرد تقدير ولا يستند إلى معلومات أو معطيات يقينية، هو: كيف يمكن “التفكير” في العلاقة مع إيران، بصورة تجعلها “أكثر توازناً” و”أكثر عائدية” ليس للطرفين فحسب، وإنما للمنطقة العربية والشرق الأوسط أيضاً، و”لا تثير مدارك تهديد” أكثر لدى عدد من الدول العربية. و”التفكير” في كيف يمكن “موازنة” أو “احتواء” مختلف الرهانات المتأتية من وجود فواعل إقليمية ودولية مختلفة، مهتمة بالتأثير في العلاقات، بكل الهواجس الملازمة لها؟ ذلك أن إكراهات الحرب ربما جعلت جزءاً من السوريين “أكثر اعتماداً” على الآخرين، و”أكثر تأثراً” تجاه رهانات الحلفاء والشركاء قبل رهانات الخصوم والأعداء.
كما أنها (أي إكراهات الحرب) تثير هواجس ومدارك تهديد متزايدة لدى الإيرانيين أنفسهم. توترات وتجاذبات متبادلة ومع تزايد التقديرات حول عدّ “خروج” إيران من سوريا “شرطاً” لـ”عودة العرب” إليها، وشرطاً مباشراً أو غير مباشر للدفع بسياسات الحل/التسوية، أو فك الحصار أو حتى التخفيف منه. أخذت تظهر توترات وتجاذبات في رؤية كل طرف للآخر: إيران، التي “تتوجس” من التأثيرات المحتملة، لـ”الانفتاح” بين العرب ودمشق على العلاقات بين البلدين.
وهي تعلم أن وجودها في سوريا وطبيعة علاقاتها مع دمشق هي أحد الموضوعات المباشرة أو غير المباشرة لـ”المداولات” و”الحوارات” بين دمشق وعدد من الدول العربية. سوريا، التي أخذت تشعر – حسب بعض التقديرات والمؤشرات – أن الإلحاح المتزايد على صعيد العلاقات الاقتصادية، يتعلق بهواجس حول مستقبل التعاون أو نوع من التطلع لضمان نوع من “الريع الاقتصادي” بعيد المدى للعلاقات، وليس فقط ضمان عائد أو ريع سياسي لها ولـ”حلف المقاومة”.
خيارات متعاكسة!
ثمة محاولة لوضع دمشق بين خيارين رئيسين، ولكنهما متعاكسان، وليس من السهل التوفيق بينهما: الأول، الاستمرار في “التحالف” مع إيران، “وبالتالي استمرار المواقف المناهضة لدمشق من قبل الغرب وإسرائيل وعدد من الدول العربية إلخ.. واستمرار حالة الحرب. الثاني، تغيير الموقف مع إيران، وعودة العلاقات العربية، وتخفيف الحصار الغربي عن دمشق إلخ.. الأمر الذي يعني تغيير مواقف وسياسات وتفاعلات وتحالفات دمشق، بشكل كبير. ان “المفاضلة” بين الخيارين، واختيار أحدهما دون الآخر، أو محاولة التوفيق بينهما، يمثل تحدياً بالغ الصعوبة أمام صنّاع السياسات، في ظروف أزمة ممتدة وعميقة، وفي ظل افتقار الأطراف لحد أدنى من اليقين حيال المستقبل. وهذا هو أساس الحديث عن “متلازمة إيران” في سوريا.
ولكن المعضلة ليست من جهة سوريا فقط، بل من جهة إيران أيضاً، إذ أن ثمة خيارين رئيسين أيضاً: الأول، “البقاء” في سوريا، بكل التحديات الملازمة لذلك من جهة إيران، وكل التعقيدات والإكراهات والتبعات الملازمة للحدث السوري. الثاني، “الخروج” من سوريا، وهذا أمر مستبعد، بل يكاد يكون مستحيلاً في الظروف الراهنة. إذ أن الحدث السوري لم يقطع مع (أو لم يتجاوز) حالة الحرب، بل إن ثمة مصادر تهديد متزايدة.
قد يكون الموقف “بين-بين”، أي: “مراجعة” طبيعة الوجود والدور الإيراني في سوريا، في ظل الإكراهات الملازمة للحدث السوري، وبخاصة تقديرات وأولويات دمشق. ومن ذلك مثلاً، العودة إلى سنوات ما قبل الحرب.
بكل ما يعنيه ذلك من تكييف للرهانات والسياسات. الوصول إلى “نقطة توازن” بين الأسباب التي أدت إلى تزايد حضور إيران في سوريا، وبين الهواجس العربية والإقليمية من استمرار ذلك الحضور. وهذه أمور بالغة التعقيد، وليس من السهل التوصل إلى تفاهمات حولها. ضغوط متزايدة أخذت التقديرات السياسية والإعلامية وغيرها في الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل تركز على “قصة إيران في سوريا”، وتصاعدت الأمور لدرجة أمسى معها “خروج إيران” من سوريا أو “منع تموضعها فيها”، حسب التعابير الشائعة والمستخدمة بكثرة اليوم، هدفاً أو عنواناً رئيساً لفواعل دولية وإقليمية عديدة، وفي مقدمها الولايات المتحدة وإسرائيل وعدد من دول الخليج العربية، وقد ينسحب جانب من ذلك على روسيا وتركيا. ولكن دمشق – حتى الآن – ترفض أي مساومة بهذا الخصوص، ذلك أن إكراهات الحدث السوري وتداخلاته وتعقيداته لا تزال حاضرة بقوة، ومن الصعب أن تضع دمشق موضوع العلاقة مع إيران أو الوجود الإيراني في سوريا على أجندة “الحلول” و”التسويات” مع أي طرف، بما في ذلك إيران نفسها، والمسألة لا تزال بعيدة، باعتبار الظروف والتجاذبات وخرائط القوة والسيطرة والتدخل اليوم، فضلاً عن أنها خارج الحسابات والتقديرات الرسمية في دمشق.
وهكذا، ثمة “عقدة” أو “إشكالية” حول دور إيران في الحرب الراهنة وفي سوريا ما بعد الحرب، ارتباطاً بتطورات الأمور في العراق واليمن ولبنان وفلسطين وغيرها، وكيف تختلف الرؤى والتقديرات حول إيران، بما في ذلك الخصوم والحلفاء. ولكن الأهم هو “أهل الدار”، أي السوريون، ذلك أن ثمة مؤشرات على “خلافية متزايدة” لديهم في النظر إلى الأمور، وفي قراءة وتقييم دور مختلف الأطراف في الأزمة السورية. إيران حضرت إلى سوريا لـ”اعتبارات سورية” في مقامٍ رئيس، وبطلب رسمي من دمشق. وهذا يقتضي منها الاستجابة لأي تطورات وإكراهات بهذا الخصوص، من منظور دمشق أولاً، طالما أن الأخيرة هي الأقدر على تقدير الموقف “متلازمة إيران”! وبالتالي، يبدو الحديث عن “متلازمة إيران” في سوريا مبرراً من حيث أن دورها، من هذا المنظور، “مطلوب ومرفوض”، “فرصة وتهديد” في آن، ويمكن التركيز في هذا الباب على النقاط الرئيسة الآتية: روسيا، من منظور روسيا، التي “تعتمد” على إيران في الحرب السورية من خلال القوات البرية والعمليات العسكرية المباشرة، وإلى حد ما في “موازنة” الرهانات الأمريكية والإسرائيلية والتركية وغيرها، ولكنها ترى في تطلعات إيران للتموضع في سوريا بوصفها “ساحة مواجهة” إقليمية ودولية، “مصدر تهديد” لرهانات روسيا في سوريا، ولـ”تفاهمات” روسيا مع إسرائيل والولايات المتحدة بشأن سوريا.
خصوم دمشق، من منظور خصوم دمشق، الذين يعدون دور إيران في سوريا “فرصة وتهديداً” في أن أيضاً، إذ ترى تركيا أن إيران تمثل “تهديداً” في سوريا لاعتبارات كثيرة، وبخاصة أنها تدعم النظام السياسي في دمشق، وهذا لا يخدم تركيا لأنها تفضل نظاماً سياسياً وحكماً ضعيفاً في سوريا. ولكنها ترى في دور إيران “فرصة” كونه “يوازن” رهانات وأدوار روسيا والسعودية وحتى الولايات المتحدة وإسرائيل. إسرائيل، ومثل ذلك بالنسبة لإسرائيل التي ترى في دور إيران في سوريا “تهديداً وفرصةً” في آن! هو تهديد لأن إيران عدو، ولديها مشروع مقاومة ضد إسرائيل، ووجودها يدعم النظام السياسي والدولة في سوريا، وهذا ما لا تريده إسرائيل. وهو “فرصة” بمعنى أنه يمثل “ذريعة” لدى إسرائيل للتدخل في الحرب وسياسات الحل وفي سوريا ما بعد الحرب، كما أنه يساعد في “تعزيز التفاهمات” مع روسيا وتركيا ودول الخليج العربية والجهود لإقامة تحالف “ناتو عربي” إلخ.
وهذا ينسحب بكيفية أو أخرى على رؤية الولايات المتحدة للموضوع نفسه. في الختام، من المتوقع أن تقاوم دمشق وطهران الضغوط المتزايدة لـ”تفكيك” علاقاتهما، لكن ليس “مراجعتها” بقصد “تكييفها” مع طبيعة التحولات في المشهد السوري وتداخلاته الإقليمية والدولية. وعلى الرغم من أن إيران سوف تتمسك بـ”موقفها” في سوريا، ليس باعتباره “حاجة استراتيجية” للطرفين فحسب، وإنما باعتباره “حاجة إيرانية” تتجاوز إكراهات الأزمة السورية أيضاً، إلا أن الإكراهات نفسها، قد تدفع سوريا لإيلاء الموضوع (المراجعة) اهتماماً أكبر نسبياً، وربما وضعه على جدول تفكير ومداولة خاص.
وان إيران حضرت إلى سوريا لـ”اعتبارات سورية” في مقامٍ رئيس، وبطلب رسمي من دمشق. وهذا يقتضي منها الاستجابة لأي تطورات وإكراهات بهذا الخصوص، من منظور دمشق أولاً، طالما أن الأخيرة هي الأقدر على تقدير الموقف. وإذا ما ذهبت الأمور في هذا الاتجاه، فمن المحتمل أن تواصل دمشق السعي لـ”تهدئة” الهواجس و”احتواء” مدارك التهديد لدى عدد من الدول العربية، حيال أثر تلك العلاقات على موقع ودور سوريا في الإقليم، “سداً للذرائع”، و”تخفيفاً” لضغوط وإكراهات الحرب. ولدى طهران حيال المقاربات والمحاولات الرامية لـ”التقارب” و”الانفتاح” السورية-العربية. لا شك أن المهمة صعبة ومعقدة، لكنها واجبة.
180Post
إضافة تعليق جديد