ارتفاع كلفة العلاج في المشافي التعليمية
زياد غصن:
قبل فترة قريبة، اضطر صحفي قدير لإسعاف أحد أقاربه إلى مشفى حكومي، والبقاء معه لأيام عدة قبل أن يفارق الحياة، وكما هو حال أي صحفي مولع بمهنته، فقد كانت حواس صديقي ترصد وتوثق على مدار ساعات تواجده في المشفى ما يشاهده ويسمعه.
يختزل صديقي ملاحظاته التي سجلها بثلاث هي:
– الأولى، أنه رغم ضغوط المراجعين والنقص الحاد في مستلزمات العمل والاضطرار إلى شراء معظم الاحتياجات من الصيدليات الخاصة، إلا أنه لايزال هناك كادر طبي عدده ليس بالقليل يتفانى في خدمة المرضى، ولا يبخل بتقديم أي مساعدة ممكنة أو شرح.. إلخ.
-الثانية، اكتشافه أن بعض الأسرة في غرف العناية المشددة أو العمليات مثلاً تبقى محجوزة لشخصيات VIP قد تضطر لمراجعة المشفى في أي وقت، ما يدفع المرضى عند حاجتهم لسرير إلى الاستعانة بالمعارف والواسطات وغير ذلك، وهو ما حدث مع صديقي.
-الملاحظة الثالثة أنه من خلال تعرفه على العديد من المرضى بحكم بقائه لعدة أيام مع قريبه في الجناح المجاني، تبين له أن هناك أسر مقتدرة وقادرة على تحمل كلفة العلاج في مشفى خاص، ومع ذلك حجزت لمريضها سرير مجاني في مشفى حكومي، سألته: كيف عرفت أنها مقتدرة مالياً؟ أجابني: من السيارة التي لا يقل سعرها عن نصف مليار ليرة مثلاً.
أعتقد أن الكثيرين يتفقون مع هذه الملاحظات، والبعض عايشها عن قرب عند اضطراره لمراجعة مشفى حكومي بصفة مريض أو مرافق لمريض، الأمر الذي يدفع للتساؤل عن ماهية الإصلاح المنتظر الذي يجب أن يستهدف المشافي الحكومية؟ وهل يجب أن تبقى خدماتها مجانية؟ ولمن؟ وكيف يمكن تحديد المستحقين لها وضمان حصولهم على خدمة صحية بجودة عالية؟ وتوقيت البدء بذلك؟
كلف كبيرة:
تكشف البيانات الرسمية غير المنشورة، والمتعلقة بتقديرات متوسط كلفة معالجة المريض الواحد في المشافي التعليمية، عن ثقل المهمة المناطة بهذه المشافي في ظل الإمكانيات المادية والفنية المتوفرة من جهة، وعن الحاجة إلى مراجعة وضبط كلفة الخدمات المقدمة بحيث يتم تخليصها من الهدر والفساد من جهة ثانية، وهذا أمر لم يعد خافياً على المواطن الذي يضطر للانتظار أياماً قبل أن يحظى بقبول في هذا المشفى أو ذاك.
وبحسب البيانات المذكورة، فإن التقديرات الرسمية تشير إلى أن متوسط كلفة العلاج التقريبية للمريض الواحد في مشفى المواساة الجامعي تصل إلى حوالي 11 مليون ليرة، علماً أن متوسط إقامة المريض في المشفى نفسه تقدر بخمسة أيام، كذلك الأمر في مشفى تشرين في اللاذقية ومشفى حلب الجامعي، والأخير يتميز بأن متوسط إقامة المريض فيه لا تتجاوز أربعة أيام فقط.
أما في مشفى الأسد الجامعي بدمشق، فإن متوسط كلفة علاج المريض فيه تصل إلى حوالي 11.2 مليون ليرة، فيما متوسط إقامة المريض فيه تقدر بحوالي أربعة أيام.
في مشفى البيروني المتخصص بمعالجة الأورام، والذي يستقبل مرضى من جميع المحافظات، فإن الكلفة تقدر بحوالي 12 مليون بمتوسط إقامة لمدة يومين للمريض، وأقل المشافي الحكومية كلفة هو مشفى الأطفال الجامعي الذي لم يتجاوز متوسط كلفة العلاج للطفل عن 1.3 مليون ليرة، هذا رغم أن متوسط إقامة الطفل المريض تصل إلى 5 أيام.
يفصل مشفى القلب الجامعي في حلب في بنود كلفة العلاج تبعاً للعمل المنجز، فكلفة إجراء القثطرة التشخيصية تبلغ 11.5 ألف ليرة، جراحة القلب 140 ألف ليرة، تركيب صمام واحد 520 ألف ليرة، صمامين 900 ألف، شبكة واحدة 6 ملايين ليرة، شبكتين 10 ملايين ليرة، ثلاث شبكات 16 مليون ليرة.
هذه الكلف التي قد يعتبرها البعض أنها باتت اليوم غير دقيقة مع تحمل المواطن لكلف معظم المستلزمات والأدوات، إلا أنها تؤشر إلى نقطتين أساسيتين:
-الأولى أن عودة المشافي لتقديم الرعاية الصحية المجانية وفق هذه الكلف يعني أنها بحاجة إلى اعتمادات مالية ضخمة، فمثلاً إذا تم إسقاط هذه الكلف على العمليات الجراحية التي تجري سنوياً، والتي من دون يحتاج أصحابها للعناية والإقامة لأيام عدة فإننا سنجد أن مشفى كالمواساة يحتاج إلى اعتمادات سنوية لا تقل عن 770 مليار ليرة على اعتبار أن المتوسط السنوي لعدد العمليات الجراحية خلال السنوات الخمس الأخيرة يتجاوز 70 ألف ليرة، فيما يحتاج الأسد الجامعي بدمشق لأكثر من 110 مليار ليرة، وهو ما يفسر عجز المشافي عن تأمين مستلزمات العلاج في ضوء احتياجها السنوي لمبالغ هائلة.
لذلك لابد من تحديد دقيق للفئات المستحقة لخدمة العلاج المجاني، والتي يجب ألا تكون متاحة للجميع كما هو قائم منذ عقود، وهنا تكمن المشكلة، فالفكرة موضوعية ويؤيدها الجميع باستثناء بعض المستفيدين من مظاهر الهدر والفساد، إنما طريقة تنفيذها غالباً ما تتسبب بحدوث إرباكات ومشاكل نتيجة عدم التخطيط والدراسة الموضوعية.
-النقطة الثانية أن هذه الكلف تصرف فعلاً في حالات عديدة قائمة على المحسوبيات والعلاقات والمصالح الشخصية، فالجهاز الذي كان معطلاً قبل ساعات قليلة يعمل فجأة، والأدوية المفقودة تصبح متوفرة، وأدوات التعقيم تصبح في متناول الطبيب وهكذا، وهذا كله يدخل في خانة الهدر والفساد والتمييز في تقديم خدمة العلاج، لاسيما عندما يكون المريض قادراً على تحمل كلفة العلاج.
لكن النتيجة واحدة:
قد تكون هناك ملاحظات على طريقة أو منهجية إعداد كلف العلاج التقديرية، وهذا يمكن تلافيه من خلال تدقيق تلك المنهجية وطريقة احتساب الكلف، إنما ذلك لا يقلل من أهمية الاستنتاجات الرئيسية المفترض العمل عليها في أي عملية إصلاح تستهدف تطوير أداء المشافي العامة وتحسين جودة خدماتها المقدمة للمواطنين وفقاً لأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.
أثر
إضافة تعليق جديد