مراجعة لكتاب رحلة إلى جبال العلويين للرحالة ليون كاهن
غياث يونس:
" أن تكون في الحرب، أن تكون في الصيد
أن ترتدي ثياب رجل، أن ترتدي ثياب امرأة
فستظل أنت نفسك بالنسبة لي "
الصفحة 72 من كتاب "رحلة الى جبال العلويين 1878" تأليف الفرنسي ليون كاهون، ترجمة مها الأحمد و تقديم الدكتور سهيل زكّار من نشر "دار التكوين للنشر و التأليف و الترجمة " - دمشق-2004.
لعل هذه النجوى التى تضج بالجمال و الرقة و الايحاء تعطينا انطباعاً أنها بوح معاصر و لكنها ليست إلا انشودة حب خلابة في العام 1878 تغنيها زوجة أحد الزعماء المحليين و اسمه "محمد" لزوجها أثناء حفلة مسائية أقامها الوجهاء المحليون على شرف الرحالة أو المستكشف أو "الضابط" الفرنسي ليون كاهون لتلك الجبال المسكونة بشعب يمتاز "بانثربولوجيا شيقة جداً" و يتسم "بالحذر و الجفول و الغموض" مع "الثبات و الحميّة" ص16، و التى تمثل تجربة استكشافها و مخالطة أهاليها في ذلك الوقت "مغامرة مجهولة و غير أمنة الجانب" ص17، كما يروّج السكان المحليون لمدينة اللاذقية في تلك الفترة -اي 1878- على الأقل كألطف تعبير ممكن بحق مجموعة بشرية تقطن جغرافيا جبلية قاسية أهملتها السلطات منذ القدم حيث يقول المؤلف "بانتهاء العهد الروماني سادت عهود من الفوضى استمرت حتى اليوم، و لا أبالغ أبداً اذا قلت بأنه لم يكن هناك في الشرق على الاطلاق شئ يمكنه تسميته بالحكومة أو الادارة" ص97.
كان ليون كاهون يهتم على الأرجح باستكشاف تلك المنطقة جغرافياً -كضابط- و بشرياً كباحث و لم يتطرق أبداً لمواضيع دينية أو سياسية و من المثير للانتباه محاولاته الحثيثة لارجاع سكان جبال العلويين لقبائل هندو-اوروبية و قيامه على الدوام بقياسات "مضحكة" لأطوال القامات و أبعاد الجماجم و وصف البشرة ولون العيون و الشعر كأسلوب-كان ذائع الصيت آنذاك لعدم اكتشاف الجينات و تواضع البحث العلمي الانثربولوجي- كأسلوب لربط التواجد الديموغرافي في جبال العلويين مع أعراق بعيدة كل البعد عن السواحل الشرقية للبحر المتوسط لشعب يعتبر نفسه دموياً - و ليس فقط دينياً- خلفاً لسلف عربي أصيل!.
و يمكن اعتبار ابحاث المؤلف مقياس معياري لأسلوب استعماري معروف في البحث عن قدم للتسلل الى الشرق كحماية الاقليات أو الاثنيات أو التجسس الاستطلاعي بصورة مدنية و تحت عناوين حضارية كبعثات التنقيب عن الاثار أو دراسات اجتماعية و بيئية ... الخ و لكيفية تقييم الادارات الاستعمارية انذاك لأوضاع المستعمرات الواعدة كسوريا و لبنان و لاسيما مع قرب الاستئثار على تركة الرجل المريض أي السلطنة العثمانية و أيضاً برهاناً واضحاً على تفسخ الادارة التركية لاقاليمها القريبة و تفشي الفساد في جهاز الدرك و انهيارالروح المعنوية لمنظومات تلك الدولة قبل ما يزيد عن الخمسين عاماً من انهيارها الكامل.
يؤخذ على الباحث سطحيته في البحث الاجتماعي و الاقتصادي لتلك المنطقة و اجتهاده في التقاط اشارات واضحة من بعض المحليين النافذين للتململ من الحكم التركي و الرغبة بالانقياد للدولة الفرنسية أو لنقل الاقتياد بدولة عصرية و اقتصاره على التطرق لأحوال الطبقة الاقطاعية من سكان الجبل في حواضر ريفية تمتاز بالرخاء المطلق مقارنة بأحوال الفلاحين أو سكان المناطق الجردية في سفوح الجبال لمجتمع يعاني من فقر مدقع و سيطرة طبقة رجال الدين و الاقطاعي المتداخلة فيما بينها و اهمال مقصود و تقصير تاريخي و اتهامات معلبة بالهرطقة و عدم الولاء و الفساد الاخلاقي.
المؤلف الضابط في الجيش الفرنسي و يبدو أنه في مهمة رسمية مع انه لم يذكر تفاصيلها ، كان رجل صامت أمام مضيفيه و لم يقدم لهم وعود أو التزامات و لم يجهد ليقدم نفسه كرجل خارق أو يصوّر السكان المحليين كحالة عجائبية أو خارقة في الغرابة و التصرفات كعادة بعض الرحالة الغربيين .
في تقديمه، يبدو الدكتور سهيل زكّار مؤرخ رصين لا ينقاد وراء اشارات شعوبية تسكن هاجس و عقل المؤلف و يسرد قصة الوجود التاريخي للعرب النصيريين أو العلويين في جبال الساحل السوري.
يشير بعجالة الى أن "الحرانيين هم أسلاف النصيريين" ص8 -اعتقاد تاريخي غير دقيق على الاقل من الناحية الجينية ومرده هو اختفاء مفاجئ لصابئة حران في القرن العاشر الميلادي و لوجود علماء دين علويين من أشهرهم زيد بن شعبة الحراني وأبو القاسم بن شعبة الحراني- و يعتبر أن الامير المكزون السنجاري قد أقطعهم حلب و الى الغرب مما كان يُعرف بجبال بهراء (التسيمة القديمة جبال العلويين) و ان انتشارهم قد شمل كل السواحل الشرقية للمتوسط بما فيها لبنان حتى شمال فلسطين بعد معارك و صدامات اثنية مع التركمان و مذهبية مع العرب الدروز الذين كانوا يقطنون مناطق غرب حلب (انحصر الان ببعض القرى الدرزية في جبل السماق -ادلب) و أيضاً مع العرب الاسماعيليين في تنافس مزمن و دموي أحياناً للسيطرة على القلاع و المناطق الحضرية في الساحل السوري.
خسر العلويون وجودهم التاريخي في لبنان بعد معارك متعددة مع المماليك و كان اخرها بعد فتوى تكفيريية لابن تيمية - الدمشقي الحراني! -سمحت للمملوك الملقب بالناصر محمد بن قلاوون حاكم القاهرة حوالي 1285 م بشن معركة "داعشية" لاستئصال الوجود العلوي في جبال لبنان و يحل محله "الدروز و الموارنة"، ص10، ليكتب فيما بعد ما يسمى بتاريخ جبل لبنان بتنافس جديد بين هذين المكونين و لانحسار التواجد العلوي الى عدة قرى في سهول عكار و الضنية و بعض قرى الجولان و حوران.
ليدخل العلويين في حالة حصار و انكماش و تضييق قارب الابادة والتهجير في فترة الحكم العثماني حتى مطالع القرن العشرين.
يمكن و بايجاز من خلال مطالعة هذا الكتاب و مجموعة مصادر أخرى ملاحظة ما يلي :
1 - لا توجد دعوى للطريقة النصيرية أو لنقل العلوية ، هي ليست مقصورة على التوارث الدموي و لكن لا يجهد العلويون لنشر دعوتهم عن طريق التبشير.
2 - هي دعوى صوفية و طريقة خلاص فردي مسالمة لا تمتهن العنف و لا الاقصاء تعتمد على كنه عرفاني "غنوصي" و تمثل استمرار فريد و وحيد لثقافة الشرق الاولى منذ ما قبل الاديان التوحيدية و مع وصمها و شقيقاتها كالدرزية والاسماعيلية.. الخ بالهرطقة أو الزندقة و اضطهادها من قبل المؤسسة الكهنوتية الرسمية كاهل السنة أو الشيعة إلا ان استيطانها لبؤر جغرافية عصية التضاريس و استعانتها بالغموض و التكيف و الصمود و انشغال الامبراطوريات بحروبها المختلفة قد أتاح لها فرصة للبقاء و للبشرية فرصة مقابلة للاطلاع على مكزون فلسفي و أدبي قيّم لمن أحب الاطلاع بعين الباحث.
3 - لا توجد تاريخياً و بشكل رسمي دولة علوية محضة، قامت على التبشير او الاستئثار بمقاليد السلطة و التوسع العسكري و الاقتصادي و الامر ليس مرده عدم توافر أسباب ذلك و مقتضياته بل لقد ثبُت تواجد علوي سلطوي كامن في عدة دويلات كالحمدانية و البويهية والفاطمية و لكن لطبيعة العقيدة العرفانية و كونها طريقة خلاص فردي لا جمعي لا تعطي بالاً لاهداف سياسية واقتصادية و لامتيازها بالتقية و الغموض و الانكفاء و عدم الخوض في الهم العام فإننا نلاحظ انتقال بشري و ديموغرافي مؤثر و قوي على شكل هجرة و تكاثر للعلويين من شرق العراق و شماله الى غرب بلاد الشام مع انتقال القوة المركزية الى بغداد مع قيام الدولة العباسية.
4 - ظاهرة الترحيب بالتواجد الفرنسي في قبل انهيار الدولة العثمانية لا تقتصر على العلويين بل شملت جميع اهالي بلاد الشام من عرب و شركس و اثنيات و اقليات مختلفة وهو يمثل وعي قومي و رغبة بحكم مدني تحرري أكثر منه مناطقي أو ديني مذهبي و يعود ذلك الى خسارة الدولة العثمانية لمعركة الحداثة وفساد و انهيار منظوماتها.
5 - مع ترحيب حذر بالاحتلال الفرنسي من قبل بعض الوجاهات الاقطاعية في الساحل السوري حال نفس الطبقة البورجوازية في المدن السورية كافة و الاقطاعية الريفية السورية ككل فإن العلويين ثاروا و حاربو الفرنسيين بتحالف مع اخوانهم في سوريا و كانت الاغلبية الساحقة في صف توحيد سوريا لينبثق من جديد و بشكل عفوي من تلك المنطقة غالب الافكار و المعتقدات القومية لسوريا واحدة مميزة أو لوطن عربي كبير انتمى الي تنظيماتها كالقومي السوري و البعث معظم الشباب العلوي اضافة لانتمائهم الى احزاب يسارية.
6 - لا تعتبر تجربة انضمام بعض الشباب العلوي من اهل الأرياف الفقيرة لقوات المشرق - و هي قوات رديفة للجيش الفرنسي- حدث استثنائي في سوريا أثناء الاحتلال يستوجب الادانة او الوصم بالعمالة، لأن معظم ضباط المدن السورية من شرائح المجتمع السوري كافة بكل طوائفها و اثنياتها كانت من القوام الاداري و التسليحي لتلك القوات و عموماً استعاض السوريون السنة عوضاً عن ذلك بالانتماء لقوات الدرك الفرنسي و الجهاز الحكومي الاداري كأسلوب استرزاق فقط و لكسب المعيشة و لعدم رغبتهم بالابتعاد عن مدنهم .
7 - يمتاز هذا المكون العلوي لسوريا بالهجرة الداخلية ضمن كافة المناطق السورية و ندرة الهجرة الخارجية و ما زالت تحافظ على وجود بشري قوي ضمن اماكن تواجدها التاريخية في الجبال و انتقال سريع و و جود غالب لحواضر المدن الساحلية كافة في سوريا -ظاهرة هجرة الريف الى المدينة وظاهرة ثقة اكبر بمنظومات الدولة الحديثة - الذي كان مقصوراً عنهم تاريخياً.
8 - انتشار تعليم قوي و تحرير شامل للمرأة و انخفاض في نسبة المواليد و حضور ادبي و ثقافي قوي في سوريا اليوم لا يوازيه نهضة اقتصادية او عمرانية او تمركز لرؤوس الاموال.
9 - فيما سبق،القوى الاستعمارية كانت تعتمد الاثنيات والاقليات الدينية كمنفذ ثقافي للسيطرة على الشرق، حالياً و مع تعويم مصطلحات رخوة كحقوق الانسان او تحرر المرأة فإن قوى الاستعمار الحديث تنظر للشرق من عين الاستثمارات النفطية و سوق السلاح و لا تقيم وزن البتة لعشاقها القدامى.
10 - هناك اختلاف عميق حول دور العلويين الحالي في سوريا، حتى معظمهم لا يعرف تماماً حقيقة هذا الدور، أهو حمائي ذاتي أم رد فعل آني أم صدامي اقصائي أم وحدوي و مدني و مع ترجيحي للتفسير الأخير باعتبار ان السوريين ككل و منهم و بشكل رئيسي العلويين قد دفع دماءً غالية و ما زال يدفع للحفاظ على وحدة سوريا و مدنيتها و لاسيما في اتون هذه الحرب على سوريا ككل و دورها في الشرق و إن شبهها بعضهم بحروب السلطان سليم و محمد ابن قلاوون من تلامذة ابن تيمية ضد هذه الطائفة.
إضافة تعليق جديد