«وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر».. ما رأي العلم الحديث؟
«وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر»؛ تلك المقولة التي ينسبها البعض لعلي بن أبي طالب ترددت كثيرًا على الألسنة، ولكن ربما لم نفهم أبعادها كاملةً طوال حياتنا. على مر العصور، وفي أزمنة قديمة، أشار العديد من الفلاسفة من شتى البلاد والأديان إلى فكرة أن الإنسان هو نسخة مصغرة من الكون، نُظر إلى الأمر في البداية على أنه رؤية فلسفية رمزية تشير إلى أن الإنسان يشبه الكون مجازًا، ولكن مؤخرًا، ومع تطور العلوم؛ ظهرت بعض الدلائل العلمية، التي أثبتت أن تلك النظريات الفلسفية ربما ليست مجرد مجاز، وأنَّ بها شيئًا من الحقيقة.
في هذا التقرير نأخذكم في رحلة سريعة بين العلم وفلسفة الروحانيات، لنرصد التشابه بين هذه الأفكار، والواقع الملموس الذي رصده العلم.
«تحسب أنك جرم صغير».. هل الإنسان نجمٌ صغير؟
تلك النظرية تُعرف باللغة الانجليزية باسم «Microcosm and Macrocosm»، وقد ظهرت تلك النظرية في أكثر من فلسفة، خاصةً الفلسفات اليونانية القديمة، بغرض وصف البشر ومكانهم في الكون، ونظر هؤلاء المفكرون الأوائل إلى الإنسان كفرد على أنه «العالم الصغير»، والذي يتوافق في تكوينه مع الكون «العالم الكبير»، ومن أبرز الفلاسفة الذين أشاروا إلى تلك النظرية هو أفلاطون، والذي قال إن البشر والكون يتألف كلٌّ منهما من جسم به عناصر معينة، وروح أيضًا، وأنه كما يشتق جسم الإنسان من جسم الكون، فيجب – وفقًا لقوله – أن تنبثق الروح البشرية من روح الكون، وبذلك تكون نتيجة أفكاره أن الكون هو كائن حي ذكي له روح ووعي مثل الإنسان.
تنقسم تلك النظرية الي قسمين؛ أحدهما استطاع العلم إثباته، والآخر ما زالت تُطرح تساؤلات حوله، الأول هو أن جسد الإنسان هو جزء من كلٍّ؛ أي من الكون، وما عرفه العلم الحديث أن عناصر جسد الإنسان بالفعل، والتي تكوِّن مادته، هي العناصر نفسها الموجودة في الكون وتشكل وجوده.
الإنسان هو نسخة مصغرة من الكون؛ ليست مجرد نظرية أو مقولة فلسفية، فقد استطاعت دراسة علمية حديثة عام 2017، أن تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن جسد الإنسان يتكون من «الغبار الكوني»، وهي جسيمات صغيرة الحجم متناهية في الصغر، ولها كتل متنوعة ولها سرعات مختلفة تتحرك بها في الفضاء الواسع بين النجوم والكواكب والظلام، ومنذ أعوام طويلة أشار العلماء إلى أن عناصر جسد الإنسان تتكون من عناصر هذا الغبار الكوني نفسها، ولكن تلك الدراسة لم تترك مجالًا للشك أو التنبؤ.؛ إذ اختبرت الدراسة ما يزيد على 150 ألف نجمٍ في الكون وتحليل عناصره، لتكشف أن جسم البشر والمجرات يتشاركون في حوالي 97% من العناصر نفسها، والتي تشكل تكوينهم المادي.
وبهذا يكون الجزء الأول من نظرية أفلاطون قد ثبت علميًّا، فالإنسان بالفعل نسخة مصغرة من الكون، وهو جزءٌ من الكل، ولكن النصف الآخر من النظرية الذي يشير إلى أن الكون كائن حي ذكي مثل الإنسان، هو أمر ما زال غامضًا كما هي الروح ما زالت غامضة. النسبة الأكبر المكونة للكون الخارجي وهي المادة المظلمة، ما زلت مجهولة للبشر ويصعب استكشافها أو دراستها أو حتى الدخول إليها، مثل الروح التي تعد كيانًا غامضًا رغم ما توصل له الإنسان من تقدم في علوم البحث في الفضاء.
ابن سينا.. التنوع البيولوجي في جسد الإنسان
أشار ابن سينا إلى أنه لا توجد ازدواجية في الخلق، بمعنى أن الله هو الخالق المتعالي الكامل، وبالضرورة يفيض صلاحه ليخلق باقي الموجودات من خلال عملية انبثاق حتمية، أي إن كل شيء مخلوق على الصورة نفسها المستمدة من الله، وبذلك تكون كل الموجودات متشابهة، ولذلك في علم الكونيات لدى ابن سينا، أشار إلى أن الإنسان هو نسخة من الكون الأكبر الموجود حوله.
تلك النظرية التي تبدو فلسفية وروحانية في مغزاها، استطاع العلم الحديث أن يثبت صحتها ودقتها من العملية، فمع تقدم العلم وفهم كوكب الأرض ودراسته، أصبحت التشابهات بين جسم الإنسان وكوكب الأرض واضحةً، ويسهل إثباتها علميًّا، وما يعزز نظرية ابن سينا أن الإنسان ليس سوى نموذج مصغر للكون الذي يعيش فيه، سواءً أكان هذا الكون الفضاء الخارجي ككل، أم كوكب الأرض نفسه مثالًا مصغرًا بدوره للفضاء.
على سبيل المثال؛ فإن الشرايين التي تحمل الدماء لكل أجزاء الجسم البشري وتمده بالحياة، أشبه بالأنهار التي تقوم بالدور نفسه لكوكب الأرض، وهناك تشابه كبير أيضًا بين جسم الإنسان وكوكب الأرض، وهو أن كليهما نظامان بيئيان متنوعان، فالأرض هي موطن لما لا يقل عن 8 مليون نوعٍ من الحياة والكائنات الحية، وجسدك البشري كذلك، ولكن على نطاق أصغر، يحتوي على ما يزيد على 10 آلاف نوع من أنواع الكائنات الحية.
لا تندهش من تلك المعلومة، فأنت مثل الأرض تمامًا، يعيش على بشرتك وفوق أنفك وفي أمعائك كميات كبيرة من البكتيريا والفطريات والميكروبات يصل عددها للرقم المذكور سلفًا، وليس عليك أن تتقزز من تلك المعلومة، بل يجب أن تكون شاكرًا لها، فتلك الكائنات الحية، تعمل على توازن صحة جسدك، كما تلعب كل أشكال الحياة والكائنات على كوكب الأرض دورًا في توازنها.
بمعنى أن تَوفر تلك النوعيات المختلفة من الكائنات الحية الدقيقة في جسدك يضمن صحتها، مثلما يضمن التنوع البيولوجي على كوكب الأرض صحته وصحة الكائنات حوله، وما وجده الطب أن الجسد البشري الذي تقل فيه نسبة تلك الكائنات الحية الدقيقة يكون معرضًا للأمراض بشكل أكبر، كذلك يهدد اختفاء التنوع البيولوجي على سطح كوكب الأرض حياته وحياة الكائنات التي تعيش فوقه ويهدد بانقراض بعضها أيضًا.
الهندوسية: «الأرض والإنسان نسخة واحدة»
في الثقافة الهندوسية نرى هناك تشبيهات واضحة جدًّا بين جسد الإنسان وكوكب الأرض، وربما تجلى هذا التشبيه بقوة في أن الإنسان يتكون من العناصر الأربعة نفسها التي تكوِّن الحياة على كوكب الأرض، وهي الماء والنار والهواء والتراب أو التربة، وأن كوكب الأرض له مداخل طاقة مثل مداخل الطاقة بجسم الإنسان والتي يطلق عليها في الهندوسية «شاكرات».
ما أكده العلم أن العناصر المكوِّنة لجسم الإنسان تتشابه مع العناصر المكونة للأرض، وأن التوازن بينها هو ما يوفر للإنسان صحة جيدة مثل الأرض، على سبيل المثال فإن كوكب الأرض يتشكل من أكثر من 70% من الماء متمثلةً في بحار ومحيطات وأنهار، ومثلها الجسد البشري التي يتكون من أكثر من 60% من الماء؛ ولذلك دائمًا ما يُنصح البشر بشرب الكثير من المياه لأنهم معرضون للجفاف بسهولة، كما أن جسد الإنسان يحتوي على غازات أيضًا، وهي ما تشكل عنصر الهواء المذكور سلفًا، أما بالنسبة للتربة، فإن العناصر المشكِّلة لجسد الإنسان خاصةً الحديد تتشابه مع العناصر المشكِّلة للتربة كما أثبت العلم الحديث.
النسبة الذهبية: عندما تخبرنا الرياضيات بأن مصدر الخلق واحد
كل تلك الثقافات القديمة، والفلاسفة أرادوا أن يخبرونا بمعلومةٍ واحدةٍ، وهي أن مصدر الخلق واحد، ولذلك تتشابه كل المخلوقات، سواءً أكانت بشرًا، أم طبيعة، أم فضاءً خارجيًّا، وتلك المعلومات لم تعد فلسفةً تهدف إلى عيش الإنسان في سلام مع كل ما حوله؛ بل إن الرياضيات أثبتت أن تلك حقيقة لا مفر منها، وأن كل الموجودات لها نسبة رياضية واحدة في تكوين أنماطها الهندسية، وأُطلق عليها النسبة الذهبية.
لنسبة الذهبية أو التناسب المقدَّس، هو مقياس هندسي أساسي وثابت في معظم أشكال الحياة في الكون، وتقدر قيمته تقريبيًّا بـ1.6180، ولتسهيل الأمر تخيل دائرة كبيرة داخلها دائرة أخرى صغيرة، والدائرة الكبيرة هي التجسيد الرقمي للكل، والدائرة الصغيرة هي التجسيد الرقمي للجزء، ولتكون لتلك الدوائر التي تجسد الكل والجزء نسبة ذهبية، يجب أن يكون حجم الدائرة الصغيرة يتناسب مع الدائرة الكبيرة بنسبة 1.6180.
مع تزايد الدوائر بالنسبة نفسها نحصل على هذا الشكل، والذي يعد أكثر الأشكال شهرةً للتعبير عن النسبة الذهبية، ويطلق عليه أيضًا الحلزون الذهبي، تلك النسبة ستجدها متماثلة في النمط الهندسي لأذنك، وفي النمط الهندسي لمجرة درب التبانة، وفي النمط الهندسي للقوقعة في أعماق البحار، وفي النمط الهندسي للزهرة النابتة على أعلى قمة جبلٍ في مكانٍ بعيدٍ عنك.
التشابهات بين الإنسان والكون متعددة، ومع تطور المجاهر والتليسكوبات، تعمقنا في النظر إلى جسد الإنسان، وانطلقنا في تأملنا لنغوص لرؤية الكون نجد التشابهات أمام أعيننا، فخلايا مخ الإنسان تحت المجهر، تتشابه في الشكل مع مناطق بعينها في الفضاء الخارجي، وحدقة العين تحت المجهر، ينطبق عليها الأمر نفسه، وغيرها من التشابهات التي حاول الكثيرون رصدها بالتصوير والتدقيق، ما يجعلنا نرى بأعيننا ونلمس بأيدينا الجملة الخالدة، والتي لم تعد فلسفيةً أو روحانيةً فقط.. «وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر».
إضافة تعليق جديد