لماذا أرسلت موسكو أسلحة نووية الى بيلاروسيا ؟
نفذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعهده بالفعل وبدأت روسيا البيضاء في استلام أسلحة نووية “تكتيكية”، فما دوافع موسكو؟ وما تلك الأسلحة؟ وماذا تعني للحرب في أوكرانيا؟
كان بوتين قد أعلن، خلال مارس/ آذار الماضي، أن موسكو ستقوم بنشر أسلحة نووية في روسيا البيضاء، حيث قال الرئيس الروسي للتلفزيون الرسمي في بلاده إن روسيا أبرمت اتفاقاً مع جارتها روسيا البيضاء لنشر أسلحة نووية تكتيكية على أراضيها، مؤكداً في الوقت ذاته أنها لن تنتهك اتفاقيات حظر الانتشار النووي.
ما الأسلحة النووية التكتيكية؟
وقبل محاولة سبر أغوار الخطوة الروسية، من المهم أن نوضح الفارق بين الأسلحة النووية الاستراتيجية وتلك التي توصف بالتكتيكية. والأسلحة النووية التكتيكية يطلق عليها الأمريكيون مصطلح “أسلحة ساحات المعركة النووية” Battlefield Nukes، وهي رؤوس نووية صغيرة الحجم يمكن إطلاقها كقذيفة هاون أو حتى تفجيرها مثل الألغام، وذلك على عكس الأسلحة النووية الاستراتيجية التي تطلق من خلال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
وتُعد الأسلحة النووية التكتيكية أصغر بكثير من تلك الاستراتيجية وهي مُصممة للاستخدام في ساحة المعركة ضد تشكيلات القوات أو الدبابات أو المنشآت العسكرية والمخابئ، وفقاً لموقع The Bulletin.
وتم تطوير الأسلحة التكتيكية خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بهدف تعزيز إمكانيات الهجوم النووي بنوع آخر قادر على التدمير المحدود والموجه لأهداف بعينها، على عكس ما قد تتسبب فيه الرؤوس النووية الاستراتيجية، المخصصة لتدمير مدن بأكملها.
فالأسلحة النووية الاستراتيجية تتمتع بأكبر قوة تدميرية، ويمكن إطلاقها من الغواصات أو الطائرات العسكرية أو الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وهي أسلحة مدمرة بشكل مرعب، لذلك يطلق عليها أسلحة “نهاية العالم”.
وكان المبرر وراء ابتكار الأسلحة النووية التكتيكية هو أنه إذا كان لديك هذه الأسلحة النووية الأصغر والأقل تدميراً، فإن التهديد باستخدامها سيكون مقلقاً أكثر لأنها أقل ضرراً وبالتالي سيكون الردع أقوى بعد اتخاذ قرار استخدامها.
وبحسب بافيل بودفيج، الخبير في القوات النووية الروسية والباحث في معهد الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح، إن هناك عدداً محدوداً من السيناريوهات على أرض المعركة يكون فيها حاجة لاستخدام القوة الهائلة الناتجة عن الأسلحة النووية لغرض تكتيكي- مثل تدمير الهياكل أو المخابئ المحصَّنة تحت الأرض، بحسب موقع Euronews.
لكن يظل الهدف الرئيسي للأسلحة النووية التكتيكية هدفاً استراتيجياً مهماً تم الادعاء عكس ذلك، وهو: ترهيب العدو وكسب اليد العليا في الصراع. وبحسب الخبير، فإن أي فكرة تتعلق بالأسلحة النووية الصغيرة أو الضربات المحدودة أو الأسلحة النووية “التكتيكية” هي مجرد وسيلة لإيجاد مهمة لتلك الأسلحة وتبرير وجودها بطريقة ما.
لكن في النهاية لا تكون مهمتها الرئيسية مهاجمة أهداف عسكرية بقدر ما تُستخدم لإظهار استعدادك وقدرتك على قتل الكثير من المدنيين والضحايا. ويلفت موقع Scientific American إلى أن أي انفجار نووي حراري من أي حجم له قوة تدميرية ساحقة. حتى السلاح النووي “الصغير المردود” والذي يكون بقوة 0.3 كيلو طن، من شأنه أن يُحدث ضرراً يفوق بكثير الضرر الذي تحدثه المتفجرات التقليدية.
ولم تستخدم الأسلحة النووية على الإطلاق في الحروب منذ عام 1945، عندما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازكي، وهو ما أجبر اليابان على الاستسلام وانتهاء الحرب العالمية الثانية.
وتسبب ذلك الاستخدام الوحيد للسلاح النووي في أهوال تشيب لها الولدان، من قتل عشرات الآلاف من الضحايا إلى كوارث بيئية، بسبب التساقط الإشعاعي الذي أدى إلى تلوث الهواء والتربة والماء والإمدادات الغذائية.
ما قوة الأسلحة النووية التي تسلمتها روسيا البيضاء؟
رئيس روسيا البيضاء، ألكسندر لوكاشينكو، قال الأربعاء 14 يونيو/حزيران، إن بلاده بدأت بالفعل تسلم الأسلحة النووية التكتيكية الروسية، وذكر أن بعض تلك الأسلحة أقوى بثلاث مرات من القنبلتين الذريتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة على هيروشيما وناجازاكي باليابان، بحسب رويترز.
وأضاف لوكاشينكو في مقابلة مع قناة روسيا-1 الحكومية الروسية بثتها قناة تليغرام التابعة لوكالة بيلتا الرسمية للأنباء في روسيا البيضاء: “لدينا صواريخ وقنابل تلقيناها من روسيا. القنابل أقوى بثلاث مرات من اللتين (ألقيتا على) هيروشيما وناجازاكي”.
ويطرح وصول تلك الأسلحة النووية إلى روسيا البيضاء تساؤلات عدة بشأن النادي النووي العالمي، الذي يضم 9 دول فقط هي: الصين وفرنسا والهند وإسرائيل وكوريا الشمالية وباكستان وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، وتمتلك جميعاً نحو 13 ألف رأس حربي نووي.
وتمتلك روسيا والولايات المتحدة أكثر من 90% من الترسانة النووية في العالم، بينما لا تمتلك الدول السبع الأخرى -المملكة المتحدة وفرنسا والصين وإسرائيل والهند وباكستان وكوريا الشمالية- أكثر من بضع مئات، وتتصدر روسيا تلك القائمة المرعبة، إذ تمتلك ترسانة كبيرة من الأسلحة التكتيكية والاستراتيجية على حدٍّ سواء.
وفي الوقت الحاضر، تمتلك روسيا أكبر ترسانة نووية في العالم بحوالي 6257 رأساً نووياً مُعلناً عنه، بينما تعترف الولايات المتحدة بامتلاكها 5550 رأساً نووياً. وكجزء من ترسانتها الضخمة، تمتلك روسيا نحو 2000 رأس نووي قصير المدى أو أسلحة نووية “تكتيكية” محفوظة في منشآت تخزين في جميع أنحاء البلاد.
ويمكن إطلاق هذه الصواريخ على نفس الصواريخ قصيرة المدى التي تستخدمها روسيا حالياً لقصف أوكرانيا، مثل صاروخها الباليستي Iskander-M، الذي يبلغ مداه حوالي 500 كيلومتر.
وفي تاريخ الأسلحة النووية، لم تكن هناك قط معاهدة -ثنائية أو دولية- تحدُّ من تطوير أو نشر الأسلحة النووية التكتيكية في أي مكان. وخلال الحرب الباردة، أنتج كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الآلاف من هذه الأسلحة، مع سيطرة موسكو على ما يصل إلى 25 ألفاً منها.
وبعد ذلك، فككت الولايات المتحدة معظم ترسانتها التكتيكية وسحبت معظم تلك الأسلحة من أوروبا، بينما احتفظت روسيا بمزيدٍ من مخزونها. وهناك الآن تفاوتٌ كبير في الترسانات التكتيكية. وفي شهر مارس/آذار 2022، أفادت خدمة أبحاث الكونغرس بأن روسيا لديها ما يصل إلى ألفي قنبلة نووية تكتيكية، بينما تمتلك الولايات المتحدة نحو 200 قنبلة.
ما دوافع بوتين السياسية والعسكرية؟
ربما يكون الرئيس الروسي نفسه قد قدم جزءاً من الإجابة عن تلك التساؤلات عندما تحدث عن إرسال أسلحة نووية تكتيكية إلى روسيا البيضاء قبل نحو 3 أشهر، حيث قال بوتين إن رئيس روسيا البيضاء، ألكسندر لوكاشينكو، يطرح منذ وقت طويل، مسألة نشر أسلحة نووية تكتيكية في بلده المتاخم لبولندا، في إشارة ضمنية إلى حلف الناتو، حيث إن بولندا عضو في الحلف العسكري الغربي.
وقال الزعيم الروسي للتلفزيون الرسمي: “لا يوجد شيء غير عادي هنا أيضاً: أولاً، تفعل الولايات المتحدة ذلك منذ عقود. ينشرون منذ فترة طويلة، أسلحتهم النووية التكتيكية على أراضي الدول الحليفة لهم”، مضيفاً: “اتفقنا مع لوكاشينكو على القيام بالمثل دون النكوص عن تعهداتنا. أعيد التأكيد، دون انتهاك التزاماتنا الدولية بشأن حظر انتشار الأسلحة النووية”.
وتشترك روسيا البيضاء في حدود مع ثلاثة دول أعضاء في حلف الأطلسي (الناتو)، هي بولندا وليتوانيا ولاتفيا، لكن بوتين ذكر أن روسيا لن تنقل فعلياً التحكم في تلك الأسلحة إلى مينسك، مضيفاً أن موسكو نشرت بالفعل 10 طائرات في روسيا البيضاء قادرة على حمل أسلحة نووية تكتيكية، كما نقلت عدداً من أنظمة الصواريخ التكتيكية من طراز إسكندر القادرة أيضاً على حمل تلك الأسلحة.
ومن المهم هنا ذكر أن هذه الخطوة النووية من جانب بوتين تأتي في سياق يبدو تسلسله منطقياً من وجهة النظر الروسية، إذ تنص العقيدة النووية الروسية صراحةً على أنه إذا كان العدوان التقليدي على روسيا يهدد وجود الأمة، فإن هذا من شأنه أن يبرر استخدام الأسلحة النووية.
وكان الزعيم الروسي قد صاغ مثل هذا التهديد الوجودي أكثر من مرة منذ أن اندلعت الحرب في أوكرانيا، والتي تصفها موسكو بأنها “عملية عسكرية خاصة” بينما يصفها الغرب بأنها “غزو عدواني غير مبرر”، حيث أوضح بوتين أنه يجوز لموسكو استخدام الأسلحة النووية من أجل حماية وحدة أراضي الدولة التي ستشمل الآن الأجزاء التي تم الاستيلاء عليها من أوكرانيا وضمّها رسمياً للاتحاد الروسي.
وعندما دعا إلى التعبئة الجزئية العام الماضي، قال بوتين: “أود أن أذكّر أولئك الذين يدلون بمثل هذه التصريحات بخصوص روسيا، بأن بلادنا لديها أنواع مختلفة من الأسلحة أيضاً، وبعضها أكثر حداثة من الأسلحة التي تمتلكها دول الناتو. في حالة وجود تهديد للسلامة الإقليمية لبلدنا وشعبنا، سنستخدم بالتأكيد جميع أنظمة الأسلحة المتاحة لنا، هذه ليست خدعة”.
وأضاف: “يمكن لمواطني روسيا أن يطمئنوا إلى أنه سيتم الدفاع عن وحدة أراضي وطننا الأم واستقلالنا وحريتنا -أكرر- من خلال جميع الأنظمة المتاحة لنا. أولئك الذين يستخدمون الابتزاز النووي ضدنا، يجب أن يعلموا أن الأمر يمكن أن ينقلب عليهم”.
كانت هذه التصريحات من جانب بوتين رداً على تصريحات صادرة عن مسؤولين بريطانيين، منهم وزيرة الخارجية السابقة ليز تراس، قالوا فيها إنّ حلف الناتو يمتلك أسلحة نووية يمكنه بها أيضاً مهاجمة روسيا إذا ما استخدمت موسكو أسلحتها النووية ضد أوكرانيا أو أي دولة عضو في الناتو.
وبالتالي فإن الرئيس الروسي، صانع القرار النهائي عندما يتعلق الأمر باستخدام الأسلحة النووية الروسية، الاستراتيجية وغير الاستراتيجية، وفقاً للعقيدة النووية الروسية، قال إن خطوة إرسال أسلحة نووية تكتيكية إلى روسيا البيضاء جاء كرد مباشر على “التصعيد البريطاني”، حيث قررت لندن إرسال قذائف يورانيوم مستنفد إلى أوكرانيا، وهو ما اعتبرته موسكو تصعيداً نووياً.
وكانت أنابيل جولدي، وزيرة الدولة البريطانية للدفاع، قد قالت الإثنين 20 مارس/آذار، إن بعض قذائف دبابات تشالنجر 2 التي ترسلها بريطانيا إلى أوكرانيا تتضمن قذائف خارقة للدروع، تحتوي على يورانيوم مستنفد. واليورانيوم المستنفد هو ما يتبقَّى بعد تخصيب اليورانيوم الطبيعي، سواء لصنع الأسلحة أو لوقود المفاعلات. ويتسم اليورانيوم المستنفد بأنه مشع بدرجة معتدلة في شكله الصلب، لكنه مادة ثقيلة جداً، وأكثر كثافة بـ1.7 مرة من الرصاص، ويتم استخدامه لتقوية القذائف حتى تتمكن من اختراق الدروع والصلب.
وعندما يصطدم سلاح مصنوع من اليورانيوم المستنفد بجسم صلب، مثل جانب الدبابة، فإنه يمر مباشرة عبره، ثم ينفجر في سحابة مشتعلة من البخار، ويستقر البخار كغبار، وهو سام ومشع، وإن كان بدرجة أقل نسبياً من درجة إشعاع اليورانيوم المخصب.
وفي هذا السياق، جاء الرد الروسي سريعاً وغاضباً ومهدداً، إذ قال بوتين إن روسيا “ستضطر إلى الرد” إذا أرسلت المملكة المتحدة قذائف مصنوعة من اليورانيوم المستنفد إلى أوكرانيا، متهماً الغرب بنشر أسلحة تحمل “مكوّناً نووياً”.
وقال بوتين في تصريحات بعد قمة عقدها في موسكو مع الرئيس الصيني شي جين بينغ: “إذا حدث كل هذا فسيتعين على روسيا الرد وفقاً لذلك، مع الأخذ في الاعتبار أن الغرب بدأ جماعياً بالفعل استخدام أسلحة بها مكون نووي”، ولم يسهب بوتين في تفاصيل.
أما وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، فكان أكثر مباشرة، حيث قال إن القرار البريطاني قلَّص الخطوات التي تسبق حدوث “صدام نووي” بين روسيا والغرب، مضيفاً في تصريحات نقلتها وكالات أنباء محلية: “تم اتخاذ خطوة أخرى ويتناقص عدد الخطوات المتبقية”. وقال شويغو للصحفيين حين سئل عن ذخيرة اليورانيوم المستنفد: “من الطبيعي أن يكون لدى روسيا ما ترد به على هذا”.
الخلاصة هنا هي أن إعلان بوتين عن نشر أسلحة نووية تكتيكية إلى روسيا جاء ردا على إرسال بريطانيا قذائف تحمل “بصمة نووية” إلى أوكرانيا، وتنفيذ هذا الإعلان يتزامن مع الهجوم الأوكراني المضاد الجاري حاليا، في رسالة مباشرة إلى الغرب بأن موسكو “لن تخسر الحرب” مهما كانت الظروف.
عربي بوست
إضافة تعليق جديد