واشنطن وبكين والذكاء الاصطناعي
بلغ الذكاء الاصطناعي سريعاً مستويات قياسية من التطور والتقدم اللامحدود، ومن المرجح أن يقلب حياة البشرية رأساً على عقب في القادم من الأيام، ناهيك بأخطاره الكبيرة والمدمرة، في حال لم تتم السيطرة عليه، ويُعمل على ضبطه.
ولم يعد الأمر يتعلق بكتابة نص أكاديمي أو حل مسابقة رياضية أو تصميم أبنية ومنشآت، بل تعداه ليرتبط باستراتيجيات الدول الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة والصين وسياساتها الخارجية، انطلاقاً من النقاط الثلاث التالية:
– مدى استعدادها لاحتواء الأخطار التدميرية التي سيتيحها الذكاء الاصطناعي كونها تملك أسلحة فتاكة، ولديها إمكانية شن حرب نووية.
– عدم استبعاد فرضية استغلالها هذه التقنية ضد بعضها البعض.
– التصميم الجدّي لكل من الصين والولايات المتحدة على التحكم والسيطرة على هذه التقنية.
أسباب القلق العالمي من الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي هو الذكاء الذي تظهره الآلات والبرامج بما يحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها.
تم تصميم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لاتخاذ القرارات، وغالباً ما تستخدم البيانات في الوقت الفعلي وبسرعة خرافية. فهي على عكس الآلات السلبية التي لا يمكنها سوى الاستجابة الميكانيكية أو المحددة سلفاً. وعليه، وباستخدام المستشعرات أو البيانات الرقمية أو المدخلات عن بُعد، فإنها تجمع المعلومات من مجموعة متنوعة من المصادر المختلفة وتخزنها، ثم تحلل المواد على الفور، وتتصرف بناءً على الأفكار المستمدة من تلك البيانات.
الغضب الحالي حول العالم من الذكاء الاصطناعي غير مسبوق، بقدر ما هو مقلق بشكلٍ فريد.
صحيح أن الفوائد النهائية للذكاء الاصطناعي ستكون كثيرة، بيد أن أخطاره قد تفوق مزاياه الإيجابية. فقبل اندلاع هذا القلق الأخير بفترة طويلة، كانت الحكومات والشركات والجامعات في جميع أنحاء أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، تناقش الأضرار الحقيقية والمحتملة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، إذ تقاربت نظرتها للأمر، وتوقفت بقلق عند عدد من التهديدات المحتملة التالية:
1 – حتمية التسبب بموجات كبيرة من البطالة، إذ قدر بنك “غولدمان ساكس” مؤخراً أن ما يصل إلى 300 مليون وظيفة معرضة لخطر الاستعاضة عنها بالذكاء الاصطناعي.
2 – توفيره طرقاً قوية جديدة عبر الإنترنت (لمختلف الأطراف والمجموعات والفئات الحزبية وأصحاب الأجندات التخريبية) لتأجيج الصراع القبلي حول العالم.
3 – نشوء جيوش من الروبوتات الشبيهة بالبشر، والأنكى أنها لا تختار المعارك مع الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، بل تعمل أيضاً على تحسين تكتيكاتها الخطابية باستمرار من خلال التعليقات حول أيها أكثر إثارة للفتن.
4 – منح المتسللين الخبيثين أدوات أكثر فعالية. وهذا يتم من خلال روبوتات الاختراق التي لا تختلف عن روبوتات الدردشة السياسية. وهذه الأخيرة تعمل باستمرار على تحسين تقنياتها، وتتعلّم حيلاً جديدة أثناء انتقالها من كمبيوتر إلى كمبيوتر، والأهم أنها تستطيع تجنيد كل جهاز كمبيوتر جرى النفاذ إليه من قبل جيوشها المتنامية.
5 – مساعدة “قراصنة العقول” – الأشخاص الذين يهدفون إلى جذب الضعفاء إلى عوالم مظلمة لأغراض خبيثة – على استعمال وسائل هدامة جديدة.
6 – الخوف من إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي لبناء تقنيات “يوم القيامة”، مثل الفيروسات البيولوجية أو نظيراتها الإلكترونية، ومع ما سيجلبه ذلك من عواقب وخيمة على الكون أجمع.
علاقة الذكاء الاصطناعي بالسياسة الأميركية
مع أن الذكاء الاصطناعي ينتج العديد من التحديات الأخرى، فإن جهات أميركية نافذة تطرح حالياً، نظرية: “التكيف الممكن”. ولهذه الغاية اقترحت شخصيات تقنية بارزة إيقاف تطور الجيل القادم (مثل ChatGPT من OpenAI أو Google Bard).
لكن مثل هذه المقترحات قوبلت بشكل اعتيادي باعتراض من جانب القائمين على السياسة الخارجية الأميركية الذين سألوا: ماذا عن الصين؟ فبرأيهم إذ توقفت الولايات المتحدة مؤقتاً أو حتى تباطأت في تطوير هذه التقنية، فيما لم تفعل الصين ذلك، حينها ستتخطى بكين، واشنطن، في سباق الحرب الباردة الثانية للسيطرة على العالم؟
ولكن لخبراء التكنولوجيا في أميركا رأي آخر، وقوامه أن الإجابة عن هذا السؤال تبدأ بفحص فرضيته التي تتلخص بأن النضال المكثف ضد الصين أمر مفروغ منه، وهو نوع من قانون الجغرافيا السياسية الثابت. وبالتالي، يترتب على ذلك أن تحدي الذكاء الاصطناعي يجب أن يأخذ مقعداً خلفياً لهذا الواقع.
تنطلق رؤية هؤلاء الخبراء من سؤال مفاده: أليس من الممكن على الأقل أن يكون تحدي الذكاء الاصطناعي بالغ الأهمية لدرجة أنه، وليس الحرب الباردة الثانية، يجب أن يكون المبدأ المنظم للسياسة الخارجية الأميركية؟ وإذا كان الأمر كذلك، وفي حال لم يكن بالإمكان التعامل مع هذا التحدي الخطير والوجودي وسط التوترات الدولية العميقة، عندها سيتوجب على الولايات المتحدة أن تحاول تخفيف التوترات مع بكين.
ولهذا السبب، يخشى جيفري هينتون، يُطلق عليه أحياناً “الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، من أن يشكل هذا الذكاء “تهديداً وجودياً”، ويعتقد أن حكمه بمسؤولية سيكون مستحيلاً في بيئة من المنافسة المريرة بين الولايات المتحدة والصين.
ويقول هينتون: “أملي الوحيد” هو أن يدرك البلدان “أننا جميعاً في القارب نفسه” لذا عليهما أن يتعاونا لإبقاء الذكاء الاصطناعي تحت السيطرة.
واستشهد هينتون باتفاقيات الحد من الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كسابقة. فصوغ معاهدة والتحقق من امتثال الأطراف لبنودها، أسهل مما هو عليه في حالة الذكاء الاصطناعي. فالتاريخ، يظهر أنه يمكن الحد من الأسلحة النووية حتى في جو الحرب الباردة.
على النقيض من ذلك، فإن التنظيم الدولي الفعال للذكاء الاصطناعي، سيتطلب رصداً دقيقاً وتنقيحاً دورياً للقواعد، وهي أمور يصعب التوفيق بينها وبين جو الحرب الباردة.
تداعيات فشل التحكم بالذكاء الاصطناعي
يرى الاستراتيجيون الأميركيون أن بلادهم نجت من الحرب الباردة الأولى سليمة. ولكن، كان ذلك قبل أن تصبح التحديات التكنولوجية المختلفة التي تتجاوز الحدود هائلة. أما الآن، فإن الجهات الفاعلة لا سيما تلك ذات التوجهات الإرهابية، يمكنها الآن هندسة مسببات الأمراض المعدية الجديدة في أي عدد من المختبرات حول العالم ضمنها أميركا – وبات متاحاً لهؤلاء الفاعلين الأشرار، استخدام الذكاء الاصطناعي غير المنظم كمساعدين مختبريين رائعين.
صحيح أنه كانت هناك أقمار اصطناعية في المدار، لكنها لم تكن معبأة ومهيأة معاً بإحكام لدرجة أن الأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية (التي اختبرتها موسكو وواشنطن وبكين) قد تؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل المدمرة على مستوى العالم بسبب الحطام الفضائي.
والأخطر من ذلك كله، أن الفشل في الحدّ من التطور المحموم وغير المسؤول بشكل خطير للذكاء الاصطناعي في عالم تعيش فيه القوتان العظميان الصاعدتان في الذكاء الاصطناعي (أي الولايات المتحدة والصين) في جو من المنافسة الشرسة، والشفافية المنخفضة والشكوك العالية وحتى الخوف، سيغذي كل ذلك، بيئة الحرب الباردة التي تشكلت في السنوات الأخيرة.
ماذا عن الحلول؟
في اللحظة التي ستقرر كل من الصين وواشنطن زج الذكاء الاصطناعي في حربهما الباردة الثانية، فإن الحل الوحيد يبقى استناداً إلى الخبراء والسياسيين الأميركيين (من أنصار السيطرة على الذكاء الاصطناعي) هو الذهاب إلى عالم أشبه بما كانت عليه الحال قبل عقدين من الزمان، أي قبل أن تبدأ علاقات أميركا مع الصين (وروسيا) في الانحدار. إن وجود هذا العالم وفقاً لهم، يشير إلى أن العودة إليه أمر ممكن، حتى لو كان ذلك سيتطلب جهداً مستمراً وإعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية على كلا الجانبين.
أكثر من ذلك، بالنسبة إلى العديد من الأشخاص المعنيين بالذكاء الاصطناعي، تبدو الحاجة إلى التنظيم الدولي واضحة. ولهذه الغاية تبنى سوندار بيتشاي، الرئيس التنفيذي لشركة Google، فكرة معاهدة دولية للذكاء الاصطناعي، فيما استشهد ألتمان بالوكالة الدولية للطاقة الذرية كسابقة لنوع الهيئة المطلوبة.
أما المنطق الكامن وراء مثل هذه الأفكار فبسيط، إذ يمكن لأي بلد أن يكون مصدر أنواع مختلفة من التأثيرات السيئة للذكاء الاصطناعي، الناتجة من الحكومات الوطنية، والإرهابيين، والمجرمين، وحتى عن طريق الحوادث، ومن غير المستبعد أيضاً، أن تكون أي دولة أخرى في الطرف المتلقي.
في المحصلة، الذكاء الاصطناعي، مثله مثل الفيروس القاتل، يعبر الحدود بسهولة، ما يمنح جميع الدول مصلحة مشروعة ومشتركة في توجيه تطور التكنولوجيا نحو الأسلم والأصلح ولما فيه خير الإنسان، لتصبح الأكثر أماناً لمستقبل البشرية.
الميادين
إضافة تعليق جديد