الدلالات الاستراتيجية لزيارة الرئيس الإيراني لسوريا

12-05-2023

الدلالات الاستراتيجية لزيارة الرئيس الإيراني لسوريا

للزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لسوريا مؤخراً، دلالات متنوعة تستمد أهميتها الاستراتيجية من توقيتها، وأيضاً من علاقة هذا التوقيت بتحوّلات عديدة طرأت على الصعد المحلية والإقليمية والدولية كافة.


فعلى الصعيد المحلي: تستمد زيارة رئيسي أهميتها من كونها أول زيارة يقوم بها رئيس إيراني منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، ما يعني أن القيادتين الإيرانية والسورية باتتا مقتنعتين بأن هذه الأزمة تدخل الآن في مراحلها الأخيرة، إن لم تكن قد انتهت بالفعل. ولأن الرئيس بشار الأسد خرج منها منتصراً بفعل تأييد إيراني لم يتزعزع في أي لحظة، فمن الطبيعي أن يصبح لزيارة الرئيس الإيراني لسوريا في هذا التوقيت بالذات مذاق خاص يبرر، من ناحية، الاحتفاء بما تحقق بالفعل من إنجاز مشترك، كما يبرر، من ناحية أخرى، التطلع إلى إرساء الأساس لتعاون أقوى بين البلدين الحليفين في مرحلة قادمة قد تشهد تحديات لا تقل خطورة.

وعلى الصعيد الإقليمي: تستمد الزيارة أهميتها من كونها تأتي بعد أسابيع قليلة من توقيع إيران والسعودية على اتفاق استراتيجي يفتح صفحة جديدة تماماً في تاريخ العلاقة بينهما، خاصة وأنه اتفاق تم برعاية صينية ومرشح لإحداث تغيير جذري في خريطة التفاعلات في المنطقة.

ولأن هذا الاتفاق قد يساعد على قطع الطريق نهائياً أمام المحاولات الرامية إلى إقامة “ناتو عربي” تقوده “إسرائيل” في مواجهة إيران وتشارك فيه السعودية، فمن الطبيعي أن تحمل زيارة الرئيس الإيراني لسوريا في هذا التوقيت بالذات رسالة تحدٍ تذكّر “إسرائيل” بأن محاولاتها الرامية للوصول إلى مياه الخليج قد باءت بالفشل، وإلى أن صمود التحالف الإيراني- السوري هو الذي رجحت كفته، وتمكّن في النهاية من قلب الطاولة على رأس “إسرائيل” نفسها، ومكّن إيران من الوصول إلى الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط والتخندق على حدود الأرض الفلسطينية المحتلة، وربما تذكرها أيضاً بأن محاولاتها الرامية إلى تفكيك محور المقاومة وضربه قد باءت بدورها بالفشل، وبأن صمود التحالف الإيراني- السوري أسهم بشكل فعال في تغيير موازين القوة في المنطقة، وجعل معادلات الردع تميل تدريجياً إلى صالح هذا المحور.

وعلى الصعيد الدولي: تستمد الزيارة أهميتها من كونها تأتي في ظل تحوّلات عالمية كبرى، كشفت عنها وعمّقتها حرب كبرى اندلعت على الساحة الأوكرانية منذ أكثر من عام، وما تزال تحدث تأثيرات عميقة في خريطة توزيع القوة في النظام الدولي. ولأن لإيران وسوريا مصلحة مشتركة في إطاحة النظام الدولي أحادي القطبية، والذي طال لأكثر من ثلاثة عقود، فمن الطبيعي أن تساعد زيارة الرئيس الإيراني لسوريا في هذا التوقيت بالذات على تعميق الروابط الاستراتيجية بين الدول والقوى الراغبة في تأسيس نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، يساعد على إضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة وفي العالم، ويضعف في الوقت نفسه من علاقات التحالف والتبعية التي تربط بعضها بكل من الولايات المتحدة و”إسرائيل”.

يلفت النظر هنا أن بعض الكتابات العربية التي تحاول البحث في الأسس التي تستند إليها العلاقة القائمة حالياً بين سوريا وإيران، تميل إلى تغليب العامل الطائفي وتعدّه الأكثر حسماً وتأثيراً في تحديد شكل هذه العلاقة ومضمونها، ثم ترى أنها علاقة بين دولة يقودها نظام يقوم على ولاية الفقيه، وأخرى يقودها نظام تديره طائفة علوية تربطها بالشيعة الإثني عشرية روابط مذهبية وثيقة، لذا فهي لا تختلف كثيراً، من وجهة نظر هؤلاء، عن العلاقة التي تربط إيران بجماعة “أنصار الله” في اليمن، أو ببعض الأحزاب والقوى الشيعية في العراق، أو بحزب الله في لبنان، وتعكس في الوقت ذاته طموحات إيران التوسعية. غير أن وجهة النظر هذه ليست دقيقة في الواقع. صحيح أنه يجب عدم التقليل مطلقاً من أهمية وعمق التفاعلات المستندة إلى روابط طائفية في المنطقة، وبالذات في مرحلة تبدو فيها الانتماءات المستندة إلى مفهوم المواطنة ضعيفة ومتآكلة، لكن أعتقد أن وزن العامل الطائفي أو المذهبي في تفسير قوة العلاقات الإيرانية -السورية ومتانتها يبدو محدوداً، خاصة إذا ما قورن بوزن العامل الجيوبوليتيكي أو الاستراتيجي الذي فرضته رؤية مشتركة لما يمثله المشروع الصهيوني المدعوم أميركياً من تهديد لأمنهما ومصالحهما في المنطقة. ولتوضيح هذه المقولة، ربما يكون من المفيد أن نعيد التذكير بحقيقة تاريخية لا تقبل الجدل، وهي أن موقف الثورة الإسلامية المعادي لـ “إسرائيل” منذ اللحظة الأولى كان بمنزلة قوة الدفع التي أسهمت بشكل حاسم في رسم مسار التحالف الاستراتيجي الذي تحقق تدريجياً بين سوريا وإيران، وصمد في وجه كل التحديات التي واجهته، بل وراح يُدعّم بمرور الوقت.

فحين اندلعت الثورة الإسلامية في إيران، كانت مصر قد خرجت عملياً من المعادلة العسكرية للصراع مع “إسرائيل”، خاصة بعد زيارة السادات للقدس عام 1977 والتوقيع على اتفاقيتَي “كامب ديفيد” عام 1978 برعاية أميركية، ولأن إيران اتخذت عقب نجاح ثورتها مباشرة قراراً بإغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران وتحويلها إلى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد كان من الطبيعي أن يرى فيها الرئيس حافظ الأسد عمقاً استراتيجياً يمكن الاعتماد عليه وحضوراً قادراً على تعويض الغياب المصري.

صحيح أن الدول العربية المناوئة لـ “إسرائيل”، والرافضة في الوقت نفسه لاتفاقيتَي “كامب ديفيد”، كانت قد شكلت جبهة “صمود وتصدٍّ”، بقيادة العراق ومشاركة سوريا، غير أن المخاوف من احتمالات تصدير الثورة الإيرانية إلى باقي دول المنطقة سرعان ما دفعت العراق، بتأييد صريح من معظم دول مجلس التعاون الخليجي، إلى شن حرب على إيران طالت لما يقرب من 8 سنوات، كان من نتائجها الفورية والمباشرة انهيار جبهة “الصمود والتصدي” وشعور سوريا بأنها باتت معزولة ومكشوفة أمام التهديد الإسرائيلي، وهو ما يفسر القرار الذي اتخذه الرئيس السوري حافظ الأسد بتوثيق التعاون مع النظام الجديد الذي استقر في إيران يستهدف في المقام الأول مواجهة التهديدات الإسرائيلية المشتركة، خاصة وأن “إسرائيل” راحت تركز ضغوطها على الجبهة اللبنانية عقب اغتيال السادات في مصر، وهي ضغوط وصلت ذروتها باحتلال بيروت، وفرض بشير الجميل رئيساً للبنان وإجباره على التوقيع على معاهدة سلام معها، ومن ثم فقد كان من الطبيعي، في سياق كهذا، أن يتحوّل لبنان إلى ساحة للمواجهة تختبر فوقها صلابة التحالف المستحدث بين سوريا وإيران، وأن يثمر هذا التحالف تأسيس حزب الله الذي سرعان ما تحوّل إلى أهم حركة عربية لمقاومة المشروع الصهيوني.

وعندما تمكن حزب الله من تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 من دون قيد أو شرط، وذلك لأول مرة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، بات واضحاً أن قرار الرئيس حافظ الأسد بالتحالف مع إيران، والذي بدا في ذلك الوقت وكأنه ينطوي على مخاطرة غير محسوبة العواقب، هو الخيار الاستراتيجي الأفضل والأقدر على تحقيق الأهداف المرجوة من جانب الطرفين، ما يفسر لماذا بدأ الضغط الإسرائيلي-الأميركي المنسق يتجه بعد ذلك نحو التركيز على سوريا نفسها وإجبارها على الخروج من لبنان.

ومن الواضح أن هذا الضغط وصل ذروته عقب جريمة اغتيال رفيق الحريري، والتي حاولت بعض الدوائر المحلية والإقليمية إلصاقها بحزب الله.

يرى البعض أن علاقات التحالف الراهنة بين إيران وسوريا باعتبارها لوناً من ألوان التبعية التي تربط بين دولتين غير متكافئتين، إحداهما قوية نسبياً وهي إيران، والأخرى منهكة وهي سوريا. غير أنه يصعب التسليم بهذه المقولة على إطلاقها. فالتحالف القائم بين إيران وسوريا منذ فترة طويلة لم يمنع الأخيرة من الدخول في تحالف عسكري قادته الولايات المتحدة إبان حرب “تحرير الكويت”، أو من البحث عن تسوية سلمية برعاية أميركية لصراعها مع “إسرائيل” طوال الفترة الممتدة بين 1993 و2000. ولأن “إسرائيل” هي التي رفضت الانسحاب من أراضيها المحتلة عام 67، فلم يكن أمام سوريا من خيار آخر سوى مواصلة التحالف مع إيران والمشاركة في دعم محور المقاومة.

فسوريا تدرك يقيناً أنها لن تستطيع تحرير أرضها المحتلة في الجولان بقوة السلاح اعتماداً على قدراتها الذاتية وحدها، خاصة في ظل غياب مصر، أو الاعتماد على الوساطة الأميركية، خاصة في ظل الانحياز الأميركي المطلق لـ “إسرائيل”.

يبدو لي، رغم كل ما تقدم، أن مستقبل التحالف بين سوريا وإيران سوف تحدده محصلة التفاعلات الناجمة عن عاملين رئيسيين، الأول: مآلات الصراع العالمي الدائر حالياً على الساحة الأوكرانية، وما إذا كان سينتهي برجحان كفة روسيا المتحالفة فعلياً مع كل من الصين وإيران، أم أنه سينتهي برجحان كفة الولايات المتحدة المتحالفة رسمياً مع أوروبا عبر “الناتو”، والثاني: مآلات الصراع الإقليمي الدائر حالياً حول برنامج إيران النووي، وما إذا كان سيتسبب في حرب تقودها “إسرائيل” منفردة أو بالتعاون مع الولايات المتحدة.

لذا، تبدو لي زيارة الرئيس الإيراني الأخيرة لسوريا كمؤشر على أن مصير كلّ من إيران وسوريا ومستقبلهما أصبحا مرتبطين عضوياً أكثر من أي وقت مضى.

الميادين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...