أضواء على الزيدية
سامح عسكر:
كانت لمعركة كربلاء سنة 61 هـ، والتي استشهد فيها الإمام “الحسين بن عليّ” أثر كبير في التاريخ الإسلامي؛ فهي التي صنعت موجات من الحقد والغضب ودوائر انتقام مغلقة بين المسلمين لم تتوقف لمدة 100 عام، حتى استتب الأمر لأبي جعفر المنصور في منتصف القرن الثاني الهجري، والتي افترق على إثرها المسلمون إلى سنة وشيعة عمليًا ونهائيًا، بعد الافتراقة الأولى في صفين جزئيًا، فصارت دوائر انتقام مغلقة يتقدمها موالون ومحبون للحسين كالمختار الثقفي وجماعة التوابين وغيرهم، وظلت تلك الدوائر تعمل في عقب الحسين ونسله ضد الأمويين وقادتهم في معارك متصلة.
فكانت إحدى أهم تلك الدوائر ثورة الإمام “زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب” واستشهاده سنة 121 هـ ، والإمام زيد هو حفيد الحسين وطالب ثأره من الأمويين ضمن سلسلة الانتقام القبلية بين الهاشميين والأمويين، جراء الذي حدث في كربلاء، والتي لم تتوقف طوال القرنين الأول والثاني الهجريين، وقاتله هو الأمير الأموي “يوسف بن عمر الثقفي” المتوفي عام 127هـ، والذي تولى حُكم اليمن فكان شديدًا على أتباع بني هاشم ونسل الحسين؛ فكان صراعه مع زيد من أكبر صراعات التاريخ في الفكر الإسلامي، والتي أدت لاحقًا لنشوء أحد أهم مذاهب المسلمين وهو (المذهب الزيدي).
ولم يتوقف الأمر إلى هنا؛ بل إنه عندما انتقل المُلك إلى العباسيين لم يتوقف الصراع؛ فرأينا الإمام “يحيى بن الحسين” الشهير “بالهادي إلى الحق” يثور ضد الدولة العباسية بدءً من العام 280 هـ ولعدة سنوات، حتى نجح في السيطرة على شمال اليمن وتأسيس ونشر المذهب الزيدي اقتداء بالإمام “زيد بن عليّ”. والمفارقة هنا أن الزيدية قامت على نسل (الحسن والحسين) معًا؛ فالإمام يحيى الهادي من نسل الحسن، بينما زيد هو من نسل الحسين، وبهذه النقطة يفترق الزيود عن (الإمامية) الذين حصروا الإمامة في نسل الحسين فقط وبعدد 12 إمام، وبناءً على هذا الأصل أجاز الفقهاء الزيود لاحقًا أن يكون الإمام فاطميًا بغض النظر عن كونه من نسل الحسن أو الحسين أو يكون العدد محدودًًا فقط بـ 12 إمامًا، فيصبح أي زعيم بعدهم إمامًا شرعيًا له الطاعة والولاية، ثم وضعوا شروطًا له (مثل الاجتهاد والفروسية والشجاعة والحكمة) كضوابط للإمام تضمن بقاء واتصال المُلك الفاطمي للزيود ونشر مذهبهم بثنائية (العقل والسيف).
ومن هنا نشأت الزيدية نشأة عسكرية قبلية سياسية معًا، وهي التي ظلت تهيمن على الطابع الفقهي والاجتماعي للزيود طيلة 10 قرون إلى أن سقطت دولة الإمام في ثورة اليمن الجمهورية عام 1962م، ولا يعني أنها نشأت عسكرية سياسية أنها لم تكن مهتمة بالعلم والفقه؛ بل اختص الزيود لأنفسهم بطابع علمي فقهي وسط بين الشيعة الإمامية والإسماعيلية وبين والسنة لعدة أسباب:
أولا: لموقعهم الجغرافي الذي يتوسط مجتمع نجران ذي الحضور الإسماعيلي الشيعي، ومجتمع وسط وغرب وجنوب اليمن ذي الحضور الشافعي السني؛ فكانوا حلقة وصل بين المجتمعين، وساهم في تبني فقهاء المذهب الزيدي رأيًا مقبولاً يفهم ثقافة ومعارف السنة والإسماعيلية معًا، ويتخذ موقفًا دبلوماسيًا ذا طابع فقهي لحل الخلافات، والذي كان من بينها مبدؤهم الشهير بجواز خلافة المفضول على الأفضل الذي يقصدون بهم جواز خلافة أبي بكر – المفضول – على الأفضل – عليّ – لصالح استقرار دولة المسلمين، وهو المبدأ الذي خفف من النعرات الطائفية بمجتمع الزيود، وظلت دولتهم عدة قرون يحميها هذا التوسط الفكري والجغرافي المميز.
ثانيا: لتاريخ الإمام زيد نفسه الذي شهد تحالفًا وتعاونًا وعلاقة طيبة مع أئمة السنة؛ كالإمام أبي حنيفة النعمان وكثير من علماء الحديث، كابن شهاب الزهري والأعمش وغيرهم، إضافة لتاريخ الإمام زيد الثوري ضد الأمويين واستشهاده على أيديهم مثلما حدث لجده الإمام الحسين بن علي.
ثالثا: لقوة الأعراف والتقاليد اليمنية الموروثة والتي لها سلطة عليا فوق زعماء القبائل يحترمها ويخضع لها شعب اليمن بالكامل، ولأن الزيود والشوافع يشكلان النسبة الكبرى من مجتمع اليمن؛ فطبيعي أن يكون هناك خضوع متوازٍ للعُرف جعل هناك روابط نفسية وعقائدية مشتركة يصعب عن طريقها التمييز بين الزيدي والشافعي في سلوكه العام اجتماعيًا ودينيًا، ولعل هذه الجزئية تفسر قول البعض بأن الزيود سنة ولكن بشكل آخر، أو شافعية اليمن شيعة ولكن بشكل آخر؛ فالحاصل أن هناك تدينًا خاصًا لليمن يحترمون فيه آل البيت والصحابة، ويُجلون أئمتهم ورموزهم، لا فرق هناك بين سني وشيعي، ويفسر أيضًا غياب الصراعات الطائفية الدينية عن هذا البلد لصالح نوع آخر من الصراع (القبلي السياسي) مقارنة مثلاً بالعراق، التي كانت ولا زالت تعاني من الصراع الطائفي نظرًا لاتساع الهوة بين ثقافة الإمامية والسنة الذيْن يشكلان النسبة الكبرى من شعب العراق.
رابعا: لقُرب موقع الزيدية في شمال اليمن من الحجاز والحرمين الشريفين؛ فلو صار بهذا الموقع الحساس شعب ومجتمع غير مسلم أو معادٍ للسلطة السنية والشعب السني في الحجاز؛ فسوف يؤدي ذلك لغضب وانتفاضة كل العرب تقريبًا، وسيرسلون استغاثات لبقية المسلمين. وقد شهدنا من أمارات ذلك أن عقد إمام اليمن الزيدي سنة 1926 اتفاقًا مع إيطاليا يقضي باعتراف موسوليني باستقلال اليمن وعدم مهاجمته مثلما فعل في ليبيا؛ فاليمن في هذا التوقيت لم تكن بالقوة العسكرية التي يمكنها صد الهجوم الإيطالي، فاختار الزيود عقد تلك الاتفاقية كي لا تطأ أقدام الطليان أرض اليمن، وهو فعل لو حدث سوف يشعل انتفاضة دينية كبرى بالعالم الإسلامي دفاعًا عن الحرمين الشريفين ضد الغازي الأوروبي، وفي تقديري أن السلطة الإيطالية فهمت تلك المعضلة واختارت الحل السياسي منعا للتصعيد الديني.
وحقيقة، وبرغم أن الزيدية والإمامية يتبعان مذهبًا شيعيًا واحدًا، لكن الخلاف بينهما كبير، أوجزه في كلمات الشيخ “جعفر السبحاني” حيث قال: “إن الإمام زيد الثائر لم يكن صاحب منهج كلامي ولا فقهيّ؛ فلو كان يقول بالعدل والتوحيد، ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن أبيه وجده عن علي – عليهم السلام -، وإن كان يفتي في مورد أو موارد فقد كان يصدر عن الحديث الذي يرويه عن الرسول الاَعظم عن طريق آبائه الطاهرين، وهذا المقدار من المؤهلات لا يصيّر الاِنسان من أصحاب المناهج في علمي الكلام والفقه، نعم جاء بعد زيد مفكرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيديّ، متفتحين في الأصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفية الاستنباط مع الحنفية، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأصول والفروع، وما أرسوه في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.” (بحوث في الممل والنحل ج 7).
ويبدو من كلام السبحاني الاستخفاف بفقه وثقافة الزيدية بدعوى أن الصلة منقطعة بين فقه وثقافة آل البيت وبين الزيود، بدعوى أن زيدًا لم يكن عالمًا بالحديث أو الفقه أو الكلام، وأنه يدين المذهب الزيدي الذي انفتح على عقائد وأصول المعتزلة، وعلى فقه وأدلة الحنفية أكثر من انفتاحه على فقه وعقائد وأصول الإمامية.
وفي تقديري أن كلام السبحاني فيه شيء من المنطق، حين نُحصي مثلاً عدد اتفاقات الزيدية مع الفقه السني التي جمعها “عبدالقادر عودة” (1906- 1954م) في كتابه “التشريع الجنائي الإسلامي”، والتي بلغت 107 اتفاقات في مسائل العقوبات، و 46 اتفاقًا في مسائل الزواج والأحوال الشخصية في كتاب ” انحلال الزواج” لعبدالله عزام، وحوالي 33 اتفاقًا في مسائل الزكاة في كتاب “فقه الزكاة” ليوسف القرضاوي، وهي أرقام كبيرة تدل على أن الاتفاقات في الفروع بهذا الحجم دالة على اتفاقات في الأصول بين السنة والزيدية، فلو فهمنا الأربعة أسباب المذكورة عاليه التي دفعت الزيدية للتوسط بين السنة من جانب وبين الإمامية والإسماعيلية من جانب؛ ندرك كيف ظهرت تلك الاتفاقات التي تفاخر بها أئمة السنة من باب تكثير العدد ورجاحة أقوالهم الفقهية على أنها حصلت على ثقة أئمة الزيود الشيعة أيضًا.
لكن الذي يظهر لي أن الزيدية الأولى لم تكن حصلت بعد على تلك الثقة؛ فكثير من الزيود الأوائل الذين دانوا بالفضل والإمامة لزيد بن علي، اتهموا في دينهم من الإمامية والسنة على حد سواء، واحتقروا تحت مسمى “البترية”، وأمثال هؤلاء “سالم بن أبي حفصة، والحكم بن عتيبة وسلمة وكثير بن النوا، وأبو المقدام والتمار. وغيرهم” (المصدر تفسير نور الثقلين للعروسي 9/ 363، وتفسير العياشي 1/ 374)، ومجمل ما قالته تلك المصادر بأن الإمام الصادق حكم بكفر هؤلاء الذين انتسبوا إلى البترية لأسباب اعتقادية خاصة، لقول البترية بإمامة أبي بكر وعمر كإمامة آل البيت الاثني عشر، ونفس الشيء للفرقة الجارودية المنتسبة “لزياد بن المنذر الهمذاني”، حيث قيل إن جعفر الصادق حكم بكفر أبي الجارود أيضًا لأسباب تتعلق بموقف هؤلاء من أبي بكر وعمر وتوصيفهما بشكل مختلف لإمامة علي بن أبي طالب.
لكن البعض من هؤلاء الزيدية انحاز نوعًا ما لرؤية أحد الفريقين – إمامية وسنة –؛ فحصلوا على ثقتهم ضد الآخر، مثلما قيل على نصر بن مزاحم والشاعر أبي العتاهية أنهم من رؤساء الزيدية، ومعروف موقف أبي العتاهية ضد المعتزلة، ونصر بن مزاحم الذي كان أقرب للإمامية في تصورهم لخلافة أبي بكر وعمر. وتلك مسألة لم تُحرر بشكل كافٍ في الفكر الإسلامي على أهميتها، وأزعم أن الحديث بشأنها يلزمه صفحات وددت الإشارة إليها هنا بنفس القدر من الأهمية على أمل مناقشتها في موضع آخر. فأتصور أن الزيدية لم تتشكل عقائديًا وفقهيًا بشكل متجرد في هذا الزمن، إنما جرى تشكلها بعد أن بسط الإمام “يحيى بن الحسين الهادي” سلطته السياسية على اليمن نهاية القرن الثالث الهجري.
من جهة أخرى يبدو أن ما أشيع في مجتمع السنة حول تسمية الإمامية بالرافضة، كان سببًا لهذا الحنق الذي يكنه (بعض) مراجع الإمامية نحو الزيود؛ فالسنة – أشهرهم ابن تيمية – يقولون إن تسمية الرافضة للإمامية يعود لرفضهم الترحم على أبي بكر وعمر بعد أن ترحم عليهما الإمام “زيد بن عليّ”؛ بينما الإمامية والزيدية يقولون إن هذا الوصف أقدم من ثورة الإمام زيد، وعند التحقيق نجد أن كلام الإمامية والزيدية أصوب من الناحية التاريخية، لأن مصطلح الرفض (سياسيًا) ضارب في الثقافة العربية للممتنعين عن بيعة الإمام؛ فالبدو ذوو ثقافة أبوية، ترى أن رفض البيعة جريمة وخروجًا عن تقاليد العشيرة، وتهديدًا لوحدة القبيلة من الداخل إذا اختلفت على تولية زعيمها؛ فكان انعقاد مجلس البيعة يعني (قرارًا مقدسًا) على الجميع سمعًا وطاعة. ولا زال هذا التقليد معمولاً به إلى اليوم.
فمفهوم الرافضة المتداول في التراثين السني والشيعي كان يُطلق إذًا على رافضي ولاية “أبي بكر” في البداية، وطال عددًا من الصحابة ثم من رفض ولاية عثمان، ثم استقر على رافضي ولاية “معاوية بن أبي سفيان”، وحاربوا أولاده من الهاشميين؛ أي أنه أطلق على جيش الحُسين بن عليّ وجماعة التوّابين والمختار الثقفي، لكنه لم يُطلَق على العباسيين رغم تشيعهم، والسبب أنهم كانوا ملوكًا. إنما أطلقوه على خصومهم من العلويين الذين رفضوا ولاية “أبي جعفر المنصور” مما يعني أن الرفض هنا ليس عقائديًا بل سياسيًا، تطور ليصبح عقائديًا في العصر العباسي الثاني بعد اشتعال الحروب المذهبية بين الأسر الشيعية (بني حمدان وبني بويه والفاطميين)، وبين الأسر السنية (العباسيين والسلاجقة والأيوبيين). وفي هذا العصر وضعت كافة أحاديث قتل الرافضة منسوبة إلى الرسول؛ منها ” يكون في آخر الزمان قوم ينبزون الرافضة، يرفضون الإسلام ويلفظونه، فاقتلوهم فإنهم مشركون” (مسند ابن حنبل 808) و (فضائل الصحابة 702).
وواضح من رواية ابن حنبل أنها قيلت في زمن ترسخ فيه مفهوم الرفض بشكل عقائدي، علمًا بأن كتب ابن حنبل كتبها أولاده في بدايات العصر العباسي الثاني المشهور ب (موالي الأتراك)، وهؤلاء مختلفون عن الفرس الأقرب للتشيع الهاشمي في العصر العباسي الأول، وهذا سر غياب الأمر بقتل الرافضة في عصر الأئمة الأربعة – الأموي والعباسي الأول – وظهور إشارات تتهم بعضهم بالرفض، كالإمام الشافعي الذي كان يحب آل البيت فاتهموه بالرفض واشتهر عنه بيت شعر يقول:
لو كان حب آل البيت رفضًا… فليشهد الثقلان أني رافضي
ويظهر أن مصدر هذا الاتهام للشافعي كان مؤيدي المنصور وأبنائه ضد من يظهر أو يبالغ في طقوس ومشاعر حب آل البيت، لمقاومة الجواسيس العلوية التابعة لمحمد النفس الزكية وأبنائه وأنصاره الذين قدسوه بعد موته. وفي التاريخ دليل على أن أنصار “محمد بن الحنفية” أيضا وصفوا بالرافضة مثلما فعل ذلك ابن قتيبة الدينوري في وصف جماعة “الكيسانية” التي قالت بإمامة ابن الحنفية من غير نسل فاطمة.
أما الشيعة الأوائل فقد قبلوا هذا المصطلح عليهم لأنه لم يكن سبّه دينية وقتها؛ بل مجرد اتهام سياسي اعتبروه أمرًا جيدًا لاعتبارات سيكولوجية لغوية، لم يتشكل وقتها اللفظ بمدلول قبيح مثلما تشكل في عصور لاحقة وفقًا لسلطة الاسم التي تحدث عنها الفيلسوف “جاك دريدا” في كتابه 11 سبتمبر، وفي التراث الشيعي علامات لذلك منها اعتبار رفض معاوية كرفض فرعون والتشيع لموسى، ومشهور عن الإمام جعفر الصادق قوله: ” أما علمت يا أبا محمد أن سبعين رجلاً من بني إسرائيل رفضوا فرعون؛ إذ استبان لهم ضلالته و لحقوا بموسى إذ استبان لهم هداه، فسموا في عسكر موسى الرافضة لأنهم رفضوا فرعون، وكانوا أشد ذلك العسكر عبادة و أشدهم حبًا لموسى و هارون و ذريتهما، فأوحى الله إلى موسى أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني سميتهم به و نحلتهم إياه” (فضائل الشيعة للصدوق 1/ 12).
ولم أتحقق من صحة نسب موسى للرافضة في التوراة، لكن المعنى صحيح وينطبق على الأنبياء جميعًا لأنهم رفضوا الشرك والظلم معًا، لكن المفهوم أصبح سبّة لاحقًا كما قلنا لتطوره بشكل عقائدي في العصر العباسي الثاني ليصبح مرتبطًا بالكفر والزندقة؛ فلفظ رافضي يساوي لفظ كافر. وهكذا، حتى بداية العصرين الأيوبي والمملوكي تكون قد انتهت كل الدول الشيعية ليستقر المفهوم إلى مجرد (شتائم وتكفير واتهامات) في كتب الفقهاء، بعضها كان أحيانًا ضد فقهاء سنة وزعماء سنة لوحظ فيهم ميل لآل البيت ورفض للترحّم على معاوية تحديدًا.
والزيدية – وفقًا لهذا السرد – لم يسلموا من وصفهم بالرافضة؛ فنرى اتهامات الرفض لهم حين خرجوا على السلطة الأموية والعباسية، فوصفهم عبد القاهر البغدادي في كتابه “الفرق بين الفرق” بالرافضة، وحين خرجوا على العثمانية أيضًا والآن حين يحاربون المملكة العربية السعودية؛ فالأصل أنه مصطلح سياسي مصدره الثقافة السنية السلطوية التي ترى أن رفض إمامهم جريمة تستوجب الاحتقار والذم.
والشيء المهم في مذهب الزيدية هو اتصالهم الوثيق بالمعتزلة؛ إذ بدأ هذا الاتصال بلقاء الإمام “زيد بن علي” بواصل بن عطاء في البصرة، وجلس معه مجالس العلم مما أوجد اتصالاً وجدانيًا وروحيًا وعقليًا بين الاثنين، وهو ما ظهر على مذهب الزيود لاحقًا في تقديم العقل على النقل في كثيرٍ من أحواله، وليس أدل على ذلك بأن انتساب الزيدية لزيد ليس عن تقليد ووجوب اتباع، ولكن بعزة وشرف مثلما يفتخرون بذلك في كتبهم (تراث الزيدية – علي الموسوي نجاد صـ 17)، ويصدق على ذلك واحد من أكبر علماء الزيدية وهو “علي عبدالكريم الفضيل” بقوله: “إن نسبة الزيدية إلى الإمام زيد رضي الله عنه ليست نسبة مذهبية كنسبة الشافعية إلى الشافعي والحنفية إلى أبي حنيفة، وإنها نسبة انتماء واعتزاز؛ ولم تكن نسبه مذهبية على النحو المعروف، وأن تسميتهم بالزيدية هي تسمية سياسية في الأصل، ولا دخل لها فيما تعارف عليه الناس بالنسبة للمذهبية” الزيدية نظرية وتطبيق صـ 143)
فالدين لدى الزيدية مفتوح إذًا للاجتهاد، في المقابل يُحرّمون التقليد ويوجبون اتباع كل مجتهد متمكن، وبرغم مطاطية هذا التعريف الذي قد يُفضي إلى القول بتسمية المجتهدين وفقًا لقربهم من السلطة السياسية والإمامة إلى أن غلبة العقل على النقل في تراث وفقه الزيدية ملحوظ في اشتراط قدرة الإمام على الاجتهاد وليس التقليد، نزولاً على قوله تعالى: ” أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون” [يونس : 35] والورع الأخلاقي مصداقًا لقوله تعالى: “لا ينال عهدي الظالمين” [البقرة : 124]، وكذلك في عدم اعتبار الإمام معصومًا؛ بل بشرًا يخطئ ويصيب، مما أوجد مرونة في هذا المذهب نجح بها الزيود في البقاء والصمود لعدة قرون وسط مجتمع سني وإسماعيلي مختلف وقوي.
تبين من ذلك أن جزئية التقليد وفقًا لمنظور الزيدية ليست في العلم بل في الأخلاق والتربية؛ فهم يفتخرون بتراث الإمام زيد الأخلاقي في السموّ الروحاني والوجداني والتواضع، مثلما حمله على التنازل عن إرث أولاد الحسين لأولاد الحسن حين شعر بأن والي المدينة الأموي يريد إيقاع الفتنة بين أبناء العم (الكامل في التاريخ لابن الأثير 5/ 5)، وهي قيمة تضحية يتوارثها الزيود من الناحية الدينية؛ فلو اجتمع ذلك مع قيم وأعراف العرب القبلية في الإيثار والتنازل للمصلحة العامة تبين أن مجتمع الزيود قائم على فكرة التضحية أساسًا؛ فالقيام هنا في جوهره جمع بين شرائط الدين والعُرف معا، واجتماع هذين الأمرين يجعلان من قوة العمل ضميرًا راسخًا عند الأجيال لا يلحظه الآخرون.
ولن أستفيض في طرح عناوين وكتب الزيدية، لأن المذهب لا يقوم على التقليد الآبائي مثل أغلب المذاهب المشهورة؛ بل اكتفيت في هذه الدراسة بعرض الملامح والخطوط العربية للمذهب، وأحيل القارئ الكريم لكتاب “تراث الزيدية” للسيد علي الموسوي نجاد، للتعرف على قائمة كتب الزيود ومصادرهم التاريخية المعتمدة، علمًا بأن المصنف شهد للزيود إيمانهم بأصول المعتزلة كحرية الاختيار والإرادة والوعد والوعيد وغيرها (صـ 20)، إنما الذي يبقى مميزًا للزيود في باب التقليد أنهم موالون سياسيًا وعاطفيًا لآل البيت، ويُجلون تراثهم الفكري والأخلاقي، ولهذا السبب انتسبوا ظاهريا إلى الشيعة، إنما ضمنيًا فهم يجمعون بين أصول عدة مذاهب في نفس الباب نظرا للنشأة السياسية العسكرية في البداية، والتي جعلت مصالح الزيود فوق الأيدلوجيا.
مواطن
إضافة تعليق جديد