سيرة فقهاء آل السبكي بين مصر والشام
سامح عسكر: منذ 700 عام كان في محافظة المنوفية بمصر يعيش شيخ شافعي إسمه "عليّ بن عبدالكافي " وشهرته (تقي الدين السبكي) عنده ولدين تاج الدين (عبدالوهاب السبكي) و بهاء الدين (أحمد السبكي)
الثلاثة مشهورين في الأزهر (بالبيت السبكي) وهو البيت الصوفي المشهور بمعارضة ابن تيمية وتكفيره على مسائل الصفات والتجسيم والتوسل، وعندما هَزم المماليك المغول ونجحوا بالسيطرة على الشام أصبحت مصر وسوريا قطعة واحدة، فكل من يتولى القضاء بمصر يترشح لقضاء سوريا..وكان من هؤلاء الشيخ (تقي الدين وولده تاج الدين)
ولأن الشام وقتها كانت موطنا للحنابلة وأتباع ابن تيمية لم يجرؤ الأب وولده على نقد ابن تيمية هناك، لكن الحنابلة عرفوا السبكية أعداء ابن تيمية فترصدوا لهم ونجحوا في عزل الشيخ عبدالوهاب وسجنه في دمشق ولم يتركوه بعد خروجه من السجن فآذوه أكثر من مرة، وقصة محنة الشيخ عبدالوهاب السبكي مشهورة في كتاب "الدرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني..
والمهم في أجواء هذا الصراع خرجت كلمة "إذا صح الحديث فهو مذهبي" منسوبة للإمام الشافعي، وسجلها الأب..اللي هو الشيخ تقي الدين في رسالة خاصة عن الشافعي المعروف وقتها (بالإمام المطلبي) وكان هدف تدوين الرسالة قطع الطريق على ابن تيمية في الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة والمرسلة كما هي عادة الحنابلة، وبالتالي قطع الصلة بين زعيم الحنابلة وقتها - ابن تيمية – وبين جمهور الشافعية في مصر والشام..وسبق مناقشة هذه الكلمة في بحث مخصوص لي منذ 5 سنوات سجلته في كتابي "تحرير الفكر"، وفيه ردود على السبكي وجماعته تثبت كذب هذه القاعدة على الشافعي..
ومن يومها صار مذهب الشافعي هو (الأحاديث الصحيحة) بدون تفكير حتى صار هذا المذهب من أسوأ مذاهب الاحتجاج وأكثرها غموضا وأعظمها تضاربا، فلو حبيت تطلع منه بفتاوى معتدلة في موضوع معين ستفعل وإذا حبيت تطلع منه بفتاوى متطرفة (في نفس الموضوع) أيضا ستفعل ، والسر إن المعيار الذي وضعه الشيخ السبكي وتبناه بعد ذلك أولاده وصار دستورا للأزهر – إلى اليوم – جعل كل حديث صحيح السند هو (دين في حد ذاته) فإذا كان الشيوخ مش قادرين يحلوا تعارضات النص الظاهري في القرآن فكيف بالحديث..!!
لكن تدور الدوائر على عائلة السبكي فيموت الأب ويتولى الإبن الشيخ عبدالوهاب قضاء دمشق فيترصد له الحنابلة ويحكموا عليه (بالكفر والزندقة) ويحكي الإمام الشعراني في كتابه "الأجوبة المرضية" مشهد محاكمة الحنابلة لتاج الدين السبكي (إن أهل زمانه رموه بالكفر واستحلال الزنا وشرب الخمر ...وأتوا به مقيدا مغلولا إلى مصر ومعه خلائق من الشام يشهدون عليه)..
خد بالك هذه الصفات كانت في شيخ قضاة الشافعية في زمانه
والغريب وصف الشعراني للمشهد (اتهموه بلبس الغيار وشد الزنار) وهي كانت عادة لملابس الأقباط والمسيحيين وقتها، يعني اتهموه إنه (مسيحي) هههههه فلو عدت بالذاكرة الآن وكيف ينسج شيوخ الوهابية والأزهر اتهاماتهم للعلمانيين أو خصومهم من الفقهاء لوقفت على إن المسألة ليست جديدة، هذه عادة المتطرفين في أي زمن..ومن الواضح إن العصر المملوكي في بداياته كان فقهاء التكفير والتطرف واخدين راحتهم ع الآخر..
أختم بأن الشيخ عبدالوهاب ليس معنى إنه مظلوم من الحنابلة إنه برئ من التكفير والعنف، هذا كان تكفيري صِرف أيضا، وفي كتابه (مُعيد النِعَم ومُبيد النِقَم) تكفير للفلاسفة والمفكرين، حتى لو قرأت كلامه في هذا الكتاب السئ فمش هتلاقي فارق بينه وبين كلام البغدادي والظواهري..ومن ذلك وصفه للفارابي وابن سينا ب (السفهاء الجهلاء أعداء الله والأنبياء، والمحرفين للشريعة وانهم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى) صـ 77 ، بينما قال على الشيعة (الجهاد في هؤلاء واجب) صـ 75
كل الحكاية إن هؤلاء الشيوخ (بيت السبكي) وغيرهم كانوا يدرسون بمدارس المماليك الدينية، التي أسسها صلاح الدين لتكون بديلة للأزهر، وهي التي وضعت بذرة 95% من الفقه السني تقريبا..فمدارس (الصالحية والأشرفية والصلاحية والغزالية والعادلية...إلخ) كانت مدارس مدعومة من السلطان الأيوبي ثم ورثها المماليك وظلت هكذا حتى قرر العثمانيون إعادة الأزهر للعمل عام 1679 بتعيين أول شيخ للأزهر ، وشيوخ كابن حجر والذهبي وعائلة السبكي وابن تيمية وابن الصلاح والنووي وغيرهم ممن وضعوا فقه السنة هم خريجي تلك المدارس..
*هامش: يوجد حديقة باسم السبكي وسط دمشق
إضافة تعليق جديد