ما هي الهندوسية وبماذا يؤمن أتباعها؟
تعد الهندوسية ثالث الأديان الكبرى من حيث عدد الأتباع في العالم، إذ يزيد عددهم عن المليار، كما يعدّها مؤرخون أقدم ديانة حية حتى الآن، مع ما يشوب أصولها وعقائدها من غموض واضطراب، لكن ذلك لم يحُلْ دون ربطها بالقومية الهندية، لتصبح سلاحا بيد اليمين المتطرف، مع أنها من أدوات القوة الناعمة لعولمة الثقافة الهندية.
لا توجد رواية متفق عليها لأصل هذه الديانة؛ فالقوميون الهندوس يزعمون أن ديانتهم تعود إلى ما قبل نشأة الإنسان نفسه، وأنها نزلت على العرق الآري النبيل الذي كان يقطن الهند قبل آلاف السنين، لكن طيفا آخر من الهندوس، وكذلك المنشقون عنهم من البوذيين والجاينيين والسيخ، يعتقدون أن الهندوسية توليفة تجمع تراثا متراكما لمعتقدات وثنية وُجدت هناك قبل التاريخ.
ويرى هذا الفريق -الذي يدعمه معظم المؤرخين الغربيين- أن الروافد الأولى تشمل بقايا الوثنية الفيدية في العصر الحديدي بشمال الهند، الذي كان بدوره مركبا من أساطير ومعتقدات محلية، والثقافات الميزوليثية القادمة من الهضبة الإيرانية في العصر البرونزي، والتقاليد الدرافيدية في جنوب الهند.
وعندما هاجر الآريون إلى الهند حوالي عام 1500 قبل الميلاد، بدؤوا تشكيل الديانة التي نعرفها اليوم، كما كرّس الغزاة الآريون نظام العبودية الطبقي لإبقاء السكان الأصليين تحت السيطرة، واحتكروا لأنفسهم مناصب الكهانة، وربطوا هذه المنظومة الاجتماعية بالدين.
الكتب المقدسة
يميز رجال الدين الهندوس بين نوعين من الكتب المقدسة: الأول يدعى “شروتي”، وهو الذي يعتقدون أنه وحي منزل، ويشمل الفيدات والأوبانيشاد، ويرجح المؤرخون أن تاريخ الشروتي يعود إلى الفترة بين عامي 1500 و300 قبل الميلاد.
وتعدّ الفيدات أقدم مجموعة من الترانيم والأساطير باللغة السنسكريتية (التي تعني الكاملة المقدسة)، وهي لغة الآريين، وكان أول هذه النصوص وأهمها “ريغ فيدا”، ثم تأتي نصوص سامافيدا (أغاني تتلى خلال الصلوات)، وياجورفيدا (عبارات نثرية تتلى عند تقديم القرابين) وأتهَرفافيدا (طلاسم سحرية)، وتشكل هذه الكتب الأربعة الضخمة “الفيدات” التي يعتقدون أنها وحي تلقاه الكهنة الأوائل.
أما الأوبانيشاد فتعني “الجلوس على مقربة”، وتطلق على نصوص مقدسة سرية تناقلها الكهنة الأوائل، وأُلحقت بالفيدات.
ويدعى النوع الثاني من الكتب المقدسة “سمريتي”، وتعني المنقول أو المتُذكَّر، ويعتقد الهندوس أنها تقوم على الوحي لكن الكهنة هم الذين كتبوها بأسلوبهم.
وتتوزع السمريتي على 3 أصناف من الكتب: أولها الملاحم، وتتضمن “بهاغافاد غيتا” و”رامايانا”، ويرجع تاريخها إلى ما بين عامي 500 قبل الميلاد و100 بعد الميلاد، وتدور قصصها حول الملوك والمحاربين العظماء.
أما الصنف الثاني فهو السوترات التي كُتبت في الفترة نفسها، وتتضمن الدارما واليوغا والفيدانتا ومانو سمريتي، وتشمل مواضيعها الحِكم والمواعظ والتشريعات. وأما الثالث فهو البورانا، وهي نصوص ظهرت بين القرنين 4 و10 الميلاديين، وتتناول أساطير عن الآلهة.
وتسمى المرحلة التي ظهرت فيها كتب الشروتي الفترة الفيدية، أما الفترة التالية التي ظهرت فيها نصوص السمريتي، أي قبل الميلاد بنحو 5 قرون، فهي المرحلة الكلاسيكية، إذ بدأ فيها انتشار الملاحم والبورانات، بهدف نشر العقيدة الأساسية بين القبائل الأمية التي لم تكن منخرطة في الطقوس التي يحتكرها الكهنة الآريون.
وفي بداية هذه المرحلة كان بوذا بدأ نشر دعوته، التي انبثقت أصلا عن الهندوسية ولم تتقيد بأساطيرها وآلهتها، وتبنى الإمبراطور الهندي أشوكا في القرن 3 قبل الميلاد مهمة نشر البوذية على أوسع نطاق، لكن الهندوسية عادت إلى الانتشار لاحقا حتى صارت لها اليد العليا في الهند بدءا من القرن الثامن الميلادي.
طيف واسع
مع تراكم النصوص والأساطير على مر القرون، أصبحت الهندوسية مظلة واسعة لمجموعة من الطوائف والمذاهب التي تبدو متناقضة في مواضع عدة، وقد يفاجأ البعض عندما يرى تحت هذه المظلة من يؤمن بالتوحيد والتثليث وتعدد الآلهة والإلحاد في آن واحد.
ويقول المؤرخ جان إيم كولر في كتاب “الفلسفات الشرقية” إنه من الصعب تتبع تاريخ الهندوسية لأنه يتسم بالغموض في ما يتعلق بالأسماء والتواريخ والأماكن؛ فالهندوسية تركز على العقائد والمبادئ أكثر من أي شيء آخر، لكن ترتيب أولويات العقائد يبدو مختلفا عن الأديان الأخرى.
فالعوامل المشتركة لدى جميع الهندوس هي الإيمان بالفيدات، والاعتقاد بفكرة تناسخ الأرواح ومرور الكون بدورات الخلق والانحلال، أما الإيمان بالآلهة وعبادتها، سواء بالمحبة أو الخوف، فلا يعد هذا شرطا جوهريا لبقاء الهندي هندوسيا.
وهكذا يصبح كل هندي يعتقد بالتناسخ -على أقل تقدير- ويحترم قوميّته، ولا يعتنق دينا آخر؛ داخلا في حكم الهندوس، حتى لو كان علمانيا ملحدا.
الألوهية والخلق
تنص كتب الشروتي على الإيمان بإله واحد متعال، مجرد عن التجسد، لا صورة له، قدّوس، يهدي عباده ويغفر ذنوبهم. ومع ذلك، نجد في هذه الكتب أيضا أوصافا أخرى لمصدر أولي للكون يدعى براهمان، وهو كائن غامض انبثقت عنه الآلهة الأخرى وبقية الموجودات بطريقة الفيض.
وتقوم الميثولوجيا الهندوسية على 3 آلهة رئيسة انبثقت عن براهمان: أولها براهما، وهو الخالق ومانح الحياة، والثاني فيشنو إله الحياة والرحمة والحب، والثالث شيفا إله الفناء والموت والدمار.
ويقول المؤرخ البريطاني ويل ديورانت في كتابه “قصة الحضارة” عن آلهة الهندوس “تزدحم بهم مقبرة العظماء في الهند، ولو أحصينا أسماء تلك الآلهة لتطلب ذلك منا 100 مجلد، وبعضها أقرب في طبيعته للملائكة، وبعضها هو ما قد نسميه نحن الشياطين، والبعض الآخر أجرام سماوية”. وهكذا يطلق الهندوس على طيف واسع من الكائنات وصف الألوهية، بما يشمل بعض الحيوانات، حتى يبلغ عددها مئات الملايين، كما تخصص بعض المذاهب والطوائف آلهة معينة بالعبادة دون غيرها.
وعندما يتعلق الأمر بالإله فيشنو، فهو يتشكل في صور متعددة تسمى “أفاتارا”، وتنص البورانا على تسجيل عشر صور مؤكدة منها، ومنها بعض الحيوانات كالسمكة والأسد والسلحفاة، ومنها شخصيات تاريخية مثل الملك راما الذي كان بطلا لإحدى الملاحم، وكذلك بوذا، وسيتجسد أيضا في صورة الفارس “كالكي” راكبا على حصان أبيض، وهو المخلّص الذي سيظهر في آخر عصر الظلام.
وتعد الروح “أتمان” بمثابة الذات الحقيقية لكل فرد، وهي حقيقة خالدة تحل في الكون كله، وثمة خلاف بين المذاهب الهندوسية بين وصفها بالحقيقة المطلقة للإله براهمان أو منفصلة عنه.
وتكتسب الأصنام والأيقونات قداستها من التأملات التي يمارسها النحات، ومن المعايير الهندسية المنصوص عليها في الكتب المقدسة، وكذلك من الطقوس التي يقوم بها الكهنة عند تنصيبها، فتحلّ فيها الطاقة الحيوية (برانا) ويتجلى من خلالها الإله، حسب معتقدهم. لذا يجب على الأتباع تقديس هذه الأصنام وتبجيلها ومنحها الحب، وقد يحجّون إليها بالمسير آلاف الأميال لنيل البركة والتواصل المباشر مع الآلهة.
أما تقديس الهندوس البقرة فلم يبدأ إلا بعد كتابة نصوص السمريتي، حيث رُبطت بإلهة الرخاء “شري”، وعُدت كل أعضائها مقدسة، وكل ما يخرج من جسدها -سواء كان حليبا أو روثا- طاهرا ومباركا، بل يحمل صفات علاجية، وتطور الأمر في القرن 19 عندما أصبح تقديس البقرة علامة فارقة للهندوس، فعدوا كل من يقصّر في تمجيدها دخيلا، أما من يجرؤ على إيذائها -فضلا عن ذبحها- فقد يُعاقب بالقتل.
طبقية حتمية
ينص الكتاب المقدس “ريغ فيدا” على تقسيم المجتمع إلى 4 طبقات بناء على أسطورة الخلق، إذ أقنع واضعو هذه الأسطورة -من الآريين- الشعبَ بأن براهما خلق كل فئة على هيئة مسبقة، فلا يمكن تجاوزها ولا التمرد عليها، بل ينبغي لكل فرد أن يبذل جهده للقيام بواجباته الدنيوية وإرضاء الآلهة، طمعا في أن تعود روحه بعد الموت إلى إنسان آخر في طبقة أفضل حظا.
وأعلى هذه الطبقات طبقة البراهمة التي تضم رجال الدين الذين انبثقوا من فم الإله، ثم تأتي طبقة الكاشاتريا، وهم الأمراء والفرسان الذين خرجوا من ذراعيه، ثم طبقة الفيشيا، التي تضم عامة المجتمع الذين خرجوا من فخذيه، وأخيرا طبقة الشودرا التي تضم المنبوذين الذين خرجوا من قدميه، فهؤلاء يُحكم عليهم بالبقاء مدى الحياة في أدنى المجتمع، وينحصر دورهم في القيام بالمهن التي يأنف منها الآخرون مثل التنظيف وحفر القبور.
وإلى جانب الطبقة (فارنا) هناك أيضا الطائفة (جاتي)، ففي التقسيم الطائفي يعاد تنظيم المجتمع أيضا حسب الطُهر النسبي؛ فالكهنة البرهميون في القمة، والمنبوذون في القاع، وهم في حُكم الأنجاس الذين يخشى الآخرون الاحتكاك بهم كي لا يصيبهم الدنس. ويكتسب كل مولود طائفته أيضا منذ ولادته، فيتزوج امرأة من الطائفة نفسها ويعمل في المهن المتاحة لها.
تنص الكتب المقدسة أيضا على احترام “الدارما”، وهي تعني الواجب أو القانون، فمن خلال إدراك كل فرد الطبقة أو الطائفة التي وُلد فيها، ينبغي أن يلتزم بالدارما الخاصة به.
ويتولى رجل الدين “البرهمن” مهمة الحفاظ على تناغم العالم من خلال انضباط الأفراد والمجتمع عموما بالدارما، كما يقوم البرهمن بتقديم القرابين للآلهة التماسا منها للحفاظ على التناغم.
ولتحقيق هذه الغاية، يمنح الكهنة المولود الذكر الجديد صفة “المولود مرتين” ما لم يكن من طبقة الشودرا، وعندما يبلغ سن الزواج يربطون بينه وبين زوجته، كما يقومون بطقوس أخرى عند وفاته لضمان عودة روحه بسلام ضمن سلسلة التناسخ (سامسارا).
دورة الحياة
لا تكتمل دورة التناسخ “سامسارا” إلا بناءً على قواعد “الكارما”، وهو مصطلح يُترجم على أنه قانون القدَر القائم على التناسب بين السبب والمسبب، أو بين الفعل ورد الفعل، ويمكن أن نعبر عنه بقاعدة “كما تدين تُدان”؛ فالكون -وفقا للهندوسية- يحمل في ذاته آليّة الكارما التلقائية، بحيث يتلقى كل فرد جزاءه وفقا لأفعاله.
وعندما يموت، تتولى الكارما مهمة الفرز لتحديد الطبقة والطائفة التي سيعاد بعثه فيها من جديد. وعندما أراد بوذا في القرن 6 أو 5 قبل الميلاد إيجاد طريق الخلاص للخروج من بؤس الحياة استند إلى قاعدة الكارما نفسها.
وبما أن الإله والكون والإنسان جوهر واحد في الأسطورة الهندوسية، فهناك قنوات للاتصال يمكن تنشيطها عبر شحذ الطاقة الروحية للإنسان، ومن خلال التأمل وممارسة طقوس اليوغا يصبح بمقدور الروح (أتمان) أن ترتقي وتتصل ببقية الكائنات، وصولا إلى بلوغ درجة الألوهية نفسها، وليس الاتحاد بالإله فقط، وهذه هي حالة الموكشا الهندوسية، والتي تقابلها النرفانا البوذية.
وفي مذهب التانترا الهندوسي، تستهدف ممارسة اليوغا اقتباس الطاقة “برانا” من الكون للوصول إلى اتحاد جنسي مع الإلهة الأنثى “شاكتي”، ويتطلب ذلك تلاوة تعاويذ شيطانية، والتأمل في مخططات ورسوم رمزية تدعى “ماندالا”. وحفظت لنا بعض المعابد من القرن 10 الميلادي منحوتات تجسد هذه الممارسات لاستنزال تلك الطاقة السحرية، وهي مقبولة لدى طائفة من البوذيين أيضا.
ما بين الإسلام والحداثة
منذ عصر التابعين في القرن 7 الميلادي، نجح المسلمون في تأسيس مجتمعات صغيرة لهم بالهند عبر الاحتكاك التجاري، ثم بدأ التغلغل في شمال الهند بداية القرن 11 على يد محمود الغزنوي، حاكم الدولة الغزنوية التركية، وتوسع الحكم الإسلامي في عصر مغول الهند بدءا بالقرن 16 ليسيطر على معظم أنحاء شبه القارة الهندية.
شابت مرحلة الحكم الإسلامي في بعض فتراتها الكثير من الشوائب، من طبقية واضطهاد وقلاقل سياسية، ومع ذلك اعتنق ملايين الهنود الدين الجديد، حتى قرر سلطان مغول الهند جلال الدين أكبر في القرن 16 إنشاء “الدين الإلهي” على أسس صوفية، والذي كان بمثابة دين تلفيقي، أساسه الإسلام ويقتبس من الهندوسية والأديان الأخرى، فلم يُكتب لمشروعه الانتشار.
وفي منتصف القرن 19، بدأ الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية على أنقاض الإمبراطورية الإسلامية، وحرص الاستعمار على تطبيق سياسة “فرّق تسُدْ” من خلال إثارة النعرات الطائفية، وتحريض الهندوس على المسلمين، كما نجحت سياسة التقسيم في فصل بنغلاديش وباكستان ومناطق أخرى عن بقية الهند، كي لا تبقى في الهند سوى أقلية من المسلمين، لا تكاد نسبتها تزيد اليوم على 15% فقط.
وحاول الأوروبيون -من برتغاليين وإنجليز- إدخال الهندوس في المسيحية، لكن جهود التبشير لم تفلح كثيرا، ونشأت بدلا من ذلك دعوات إصلاحية من داخل الهندوسية، ومن أهمها مشروع الكاهن البرهمي رام موهان روي في القرن 18، الذي رفض النظام الطائفي الطبقي، وطالب بوقف عادة حرق الأرامل، ودعا إلى تعليم النساء، حتى أصبحت جمعيته “براهمو ساماج” منبرا لنشر هذه الأفكار.
في عام 1886، ومع وفاة البرهمي سْري راما كريشنا، أسس تلاميذه رسميا نظام “راما كريشنا” على أسس التانترا، وفي أواخر القرن 19 حمل تلميذه سوامي فيفيكاناندا هذه التعاليم إلى نيويورك ليؤسس هناك جمعية فيدانتا، التي كانت نواة لنشر فلسفة الهندوسية واليوغا في الغرب.
ومع أن فيفيكاناندا توفي بداية الأربعينيات من عمره فإن نشاطه الكبير ترك بصمة مهمة في الغرب، إذ نجح في لفت الأنظار إلى الهندوسية بمشاركته في برلمان الأديان العالمي في شيكاغو عام 1893، وتمكن من خلال ارتقائه السريع في النظام الماسوني من وضع الهندوسية في صلب تعاليم الجمعيات السرية ومنظمات الثيوصوفيا الباطنية وحركة العصر الجديد التي انتشرت بقوة في الغرب منذ منتصف القرن العشرين.
ونتيجة لهذا التداخل والاندماج، اقتحمت أفكار الكارما والتناسخ الثقافة الشعبية في أميركا وأوروبا، كما يتواصل انتشار اليوغا الذي يُروَّج له في صورة لا تتعارض مع العلمانية، حتى أقرت الأمم المتحدة عام 2014 الاحتفال باليوم العالمي لليوغا في 21 يونيو/حزيران من كل عام، مع أنه طقس ديني خاص بديانة لا تقبل العولمة.
الهندوسية السياسية
كان مهاتما غاندي وجد في القومية الهندوسية إرثا مقدسا يجمع الأتباع حوله بعد جلاء الاحتلال البريطاني، لكن محاولاته التحديثية لم ترُق لطوائف من الهندوس المتشددين الذين اعتبروه علمانيا وخائنا، وبعد 5 محاولات لاغتياله، لقي مصرعه في المحاولة السادسة على يد أحد الهندوس مطلع عام 1948، فاتجهت الأنظار بقوة نحو خطر التطرف الهندوسي الصاعد.
كانت الحركة القومية تحمل حلم “النهضة الهندوسية” منذ القرن 19، وكان زعماؤها يتحالفون مع المستعمر الإنجليزي للقضاء على نفوذ المسلمين، بهدف إنشاء دولة هندوسية بعد الاستقلال، وهم يرون أن الهندوس هم أبناء الهند الحقيقيون، وأن على الفئات الأخرى مثل المسلمين والمسيحيين أن يقبلوا بالعيش بصفتهم مواطنين من الدرجة الثانية، بحيث لا يُسمح لهم بالاقتراب من دوائر السياسة.
ومنذ نحو قرن، تتصدر مليشيات “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” (RSS) الجماعات الهندوسية القومية، وهي تدرّب أتباعها على حمل السلاح، وتطالب بإعادة بقية الهنود إلى ديانتهم الوثنية الأصلية، على اعتبار أن انتقال الملايين منهم للإسلام والمسيحية قبل قرون كان قسريا، وأنه لا يمكن للهندي إلا أن يكون هندوسيا.
تعتمد هذه الحركات على أفكار الناشط السياسي فيناياك دامودار سافاركار، الذي ابتكر فلسفة “الهِندوتفا” في عشرينيات القرن العشرين، معتبرا أن “الهند للهندوس”، وأنه يجب أيضا إعادة تشكيل الهندوسية نفسها، بوصف أن الهند أرض مقدّسة، وهي الموطن الأصلي للآريين، فهم السكان الأصليون وليسوا غزاة أو فاتحين.
وفي أواخر الثلاثينيات، استلهم الفيلسوف المتطرف مادهاف ساداشيف من النازية فكرة الحل النهائي لتعامل الهند مع المسلمين والمسيحيين، وتبنى مادهاف ساداشيف غولووكر هذه الإستراتيجية مع تزعمه لجماعة “آر إس إس” المسلحة، وظلت الجماعة تنشر إرهابها إلى أن اضطرت الحكومة لحظرها بعد اغتيال غاندي، لكنها كانت تعود إلى العمل عبر جماعات أخرى ناشئة.
وفي مطلع الخمسينيات، تأسس حزب “جانا سانغ” المتطرف، وكان يُنظر إليه على أنه الذراع السياسية لجماعة “آر إس إس”، وظل يناهض سياسات حزب المؤتمر الوطني الحاكم على مدى 3 عقود، إلى أن نشأ على أنقاضه حزب “بهاراتيا جاناتا” في بداية الثمانينيات، الذي صعد بقوة في الانتخابات مستغلا الفتنة الطائفية التي اندلعت أثناء المطالبة بهدم مسجد بابري الأثري في مدينة أيوديا بولاية أوتار براديش، على اعتبار أنه بُني في موقع ولادة الملك راما، الذي كان أحد تجسّدات الإله فيشنو، مما يعني ضرورة استعادة المكان وإقامة معبد فيه.
وفي أواخر عام 1992، نجح المتشددون الهندوس -بالتعاون مع حزب بهاراتيا جاناتا- في حشد نحو 150 ألف شخص، وتمكنوا بالفعل من هدم المسجد بأدوات يدوية، رغم احتشاد قوّات الأمن، فازدادت بذلك شعبية الحزب المتطرف.
وبعد 10 سنوات، اندلعت أعمال شغب بولاية غوجارات وذهب ضحيتها مئات القتلى من المسلمين، وأشارت أصابع الاتهام داخليا ودوليا إلى حاكم الولاية آنذاك ناريندرا مودي بتأجيج العنف وإفساح المجال للمتطرفين الهندوس بارتكاب المذبحة، ومنع الشرطة من التدخل لمدة 3 أيام، لا سيما أن مودي ينتمي للحزب المتطرف نفسه.
قاطعت دول الغرب حكومة غوجارات، ومنعت الولايات المتحدة مودي من دخول أراضيها عام 2005 بسبب الاتهامات الموجهة له، لكنه نجح في صناعة صورته الإعلامية مستغلا مواقع التواصل وصعود الخطاب المتشدد، حتى فوجئ العالم بفوزه في انتخابات عام 2014 ليتولى منصب رئاسة وزراء الهند، ويزيح حزبُه المتطرف حزبَ المؤتمر الوطني الذي حكم الهند منذ عام 1947.
وبإعلان الفوز طُويت صفحة مذبحة غوجارات، وأعلن الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما أنه سيتواصل مع مودي لتقوية العلاقات الثنائية، كما جمعت مودي بالرئيس اللاحق دونالد ترامب علاقة قوية، أما العلاقة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو فكانت أقرب إلى الصداقة الشخصية، لا سيما مع إعلان القوميين الهندوس أنهم يجدون في الحركة الصهيونية تجربة ملهِمة.
وعلى الرغم من التنديد الغربي المتواصل بالاضطهاد الذي تمارسه حكومة الصين ضد المسلمين من أقلية الإيغور، فإن سياسات التمييز والاستئصال التي تمارسها حكومة مودي ضد مسلمي الهند لا تكاد تلقى أي تنديد يذكر، بل لا تثير سياساته اليمينية وتكريسه لصورة الحاكم الفردي الشمولي أي انتقاد في الأوساط السياسية الليبرالية، فهو يحظى بمكانة مهمة في التحالفات الغربية الرامية إلى احتواء الصين، وإلى منع صعود أي قوة إسلامية في المنطقة.
الجزيرة
إضافة تعليق جديد