التَّعَالِي، الإنسانيَّة، والأخلاق في فَلْسَفة إيمانويل ليفيناس
السعيد عبد الغني:
تتناول هذه الورقة ثلاث إشاراتٍ أساسيَّة في لَاهُوت إيمانويل ليفيناس، تسليط الضُّوء في كل حالةٍ على كيفية سماح تفكير ليفيناس له إما بالانْدِماج أو تجنُّب بعض أقسى الانتقادات الحديثة للإيمان التَّقليديّ بالله.
أولًا: نحن نُقدِّم رؤية إيمانويل ليفيناس للتَّعاليّ الإلَهي، ونوضِّح إلحاده الأنطولوجيّ، وشرح كيف يُغني هذا عن إثبات وجود الله ويُجنِّبه تشابكات الثيودسي(نظرية العدالة الإلهية) التَّقليديَّة؟
ثانيًا: نصف فِكْرة ليفيناس عن التَّتبُّع؛ إظهار كيف أن الله غير الموجود لا يزال يترك بصماته في وجه الشَّخص الآخر؟ وشرح كيف تَتَوَافق هذه الرؤية من المحايثة الإلَهيَّة مع أجندات مفكرين مثل فيورباخ ونيتشه، الذين انتقدوا اللَّاهُوت الذي رفع الله، بينما حَطَّ من قدر الإنسانيَّة؟
ثالثًا: نُقدِّم إصْرَار إيمانويل ليفيناس على الأسبقية الفَلْسَفيَّة للأخلاق، مُبيِّنًا كيف أنه يَصُبّ فَلْسَفته الأخلاقيَّة بالموضوعات الدِّينيَّة، ورفع الفَلْسَفة الأخلاقيَّة إلى مستوى الاهتمام المُطلق، بطريقةٍ حتى المُنظِّرين الاجتماعيين المُلحدين مثل ماركس أو فرويد يمكن أن يقدروا ذلك؟
نُنْهي بإيجازٍ في اعتبارات قيود نموذج ليفيناس، ومناقشة المشاكل المتعلِّقة به، وقابلية التطبيق العمليّ والاقتراح، إلا أن نطاقه قد يكون ضيقًا جدًا: سواء لفشله في التعرُّف على بيان المطالب الأخلاقيَّة المُحتمَلة التي تُظهرها الحيوانات غير البشريَّة والعَالَم الطبيعيّ وعدم قدرته على التعرُّف على الفرادية أو الخِبْرَات الجماليَّة ذات الأهمية الدِّينيَّة.
المُقدَّمة:
إلَه إيمانويل ليفيناس هو إنسان بالكامل، وهو دائمًا صالح وغير موجودٍ.
تشرح هذه الورقة المجموعة المُذْهِلة من الموضوعات، وستُقدِّم نموذج الله للرِّوائيّ الفيلسوف الفرنسيّ: إلَه يسمح تَعَالِيه لنموذج ليفيناس لدمج أو تجنُّب بعض أشَدّ انتقادات اللَّاهُوت التَّقليديّ، التي تلهم عَلاقتها بالإنسانيَّة نظرة مُرْضِية للغاية عن الإنسان والطبيعة الإلَهيَّة، والتي تُعزِّز أهميتها الأخلاقيَّة الحَصْرية للسَّلام في عَالَمٍ يسوده العُنْف.
تَعَالِي الإلَه:
أحد ادِّعَاءاتنا الأوَّليَّة، هو أن إلَه ليفيناس غير موجودٍ للمُفكِّر الذي يستدعي الله بإصرارٍ، قد يبدو تأكيد ليفيناس مُفَاجئًا، لكن فحصه لرؤيته لتَعَالِي الإلَه يجب أن تُسَاعِد في توضيح هذا اللُّغز.
خلال العديد من أعماله الفَلْسَفيَّة، يصف ليفيناس مِرَارًا ما يتجاوز صلاحيات الإدْرَاك والتَّمثيل.
يؤكِّد أن اللا نهائيّ هو “عُمْق الخضوع الذي لا يشتمِله استيعاب، وحيث لا تكوين يعيله بعد الآن … مكانًا لا يُشَار إليه”. (ليفيناس 1998 ، 66-67).
هنا يشترك إيمانويل ليفيناس في بعض الأرضيَّة مع ديكارت، الذي وَصَفَ أيضًا الديناميكيَّة حيث تَمَّ وَضْع فِكْرة اللا نهائيَّة، من خلال ما هو لا نهائيّ، ضمن كائن نهائيّ.
عِلاوة على ذلك، يوضِّح ليفيناس كيف يمكن لهذا التَّعَاليّ الإبستمولوجيّ أن يكون مُسْتَدَامًا، حيث يظل الله منفصلًا عنه ويُقَاوِم الانْغِمَاس في المحايثة، ويستمر هذا الانفصال حيث يتِمّ إعادة توجيه الذَّات الموضوعيَّة من الله للآخر، أو كما يقول ليفيناس: “بعيدًا عن الخير… وفقط تجاه الخير”. (ليفيناس 1998 ، 69).
في فينومينولوجيا الرَّغبة الديناميكيَّة لليفيناس، “الله تَمَّ اقتلاعه من الموضوعيَّة”، والموضوع يُوَاجِه باستمرار عَجْزِه ويخدع نحو ما اقتلع. إعادة التَّوجيه المؤبَّدة الدائمة هذه تضع باستمرار الله خارج نطاق الموضوع المستوْعَب، ويمنع إرساء ثبات الموضوع وإبراز تعالِي الله الإبستمولوجي.
في نفس الوقت هذه الرَّغبة لمعرفة الله تُشجِّع الموضوع على سلب مسئوليته تجاه الآخر، منذ ذلك الحين. فقط من خلال الاسْتِجَابة للآخر يمكن لهذا المرء أن يتعرَّف على الله على الإطلاق.
في حين أن هذه الجوانب من تَعَالِي الله قد تكون مقبولة من الناحية الفَلْسَفيَّة للقُرَّاء ذوي التعاطُف الوجوديّ، إذا كان هذا هو مُجْمَل تعالِي الله من خلال فَلْسَفة إيمانويل ليفيناس، سيكون لدينا نسخة مُحدِثَة فقط من الصُّورة الأساسيَّة التي قدَّمها سابقًا تقليد لمُفكرِّين من ديكارت وباسكال وكيركيجارد.
رؤية ليفيناس أكثر راديكاليَّة من رؤية هؤلاء المُفكرِّين، ومع ذلك، فإلَهه أكثر تَعَالِيًا راديكاليًّا، ولا يتجاوز الإدراك البشريّ فحسب وحيازته، بل يتجاوز أيضًا الوجود الميتافيزيقيّ نفسه.
لا يَعْتَبِر ليفيناس الله كِيَانًا لا محدودًا كما فعل أسلافه. بدلًا من ذلك، يُصِرّ ليفيناس مِرارًا وتكرارًا على أن الله “وراء الكِيَان”، بعبارةٍ أخرى، بالنسبة إلى ليفيناس، فإن تعالِي الله لا يعني أن الله موجودٌ في “عَالَمٍ وراء العَالَم”، ولكن بالمعنى الدَّقيق للكلمة، الله ككِيَان غير موجودٍ، سواء في عَالَمٍ “دُنيويّ” أو “عَالَمٍ آخر”. الله، على حَدّ تعبير ليفيناس، “مُتَعَال إلى حَدّ الغياب”. (ليفيناس 1998 ، 69).
يَتَضَمَّن الكثير من الإيمان التَّقليديّ، في تقدير ليفيناس، “التَّفكير في الله ككِيَان وفي التَّفكير على أساس هذا الكِيَان الأعلى أو الأسمى. (ليفيناس 2000 ، 160).
يُميِّز هذا المفهوم الألُوهيَّة في “البراهين” الكلاسيكيَّة، على سبيل المثال، أنطولوجيَّة أنسلم الوجوديّ، “أعظم كائن يمكن تصوُّره”، الكونيّ لتوما الإكويني “السبَّب الأوَّل” للأكويني، أو الساعاتي الغائيّ. المهم ليس إثبات وجود الله بهذه الطريقة، في الواقع، يتنصَّل ليفيناس من مثل هذا النهج “الوضعيّ”، نقلًا عن سيمون وايل، الإلَه “لا وجود له” بالنسبة له لأن “الوجود … لا يكفي الإلَه”. (ليفيناس 2000 ، 143).
يتجنَّب ليفيناس التصوُّر اللَّاهُوتيّ الغربيّ المنتشر الذي يُوصَف فيه الله بأنه كائنٌ، ويُصرِّح بصلابةٍ أن وجهة نظره هي “على طرفي نقيضٍ فِكْرة الله التَّقليديَّة”. (ليفيناس 2000 ، 207).
بالنسبة لليفيناس، مثل هذه المفاهيم التَّقليديَّة -واللُّغة المُستخدَمة والمشكِلة والحاملة– تسرق ألُوهيَّته من قَدَاستها.
على حَدّ تعبيره، اللَّاهُوت التَّقليديّ “يضع المُتَعَالِي في أنظمةٍ، ويُخصِّص مصطلحًا لتمرير التَّعَالِي، ويُجَلِطه في عَالَمٍ وراء المشَاهد”. (ليفيناس 1981، 5). مَوقّعة الله هذه في “عَالَم خلف المشاهد”، هو نتيجة طبيعية للُّغة اللَّاهُوتيَّة التي “تُدمِّر الوضع الدِّينيّ للتَّعَالِي”، ومن ثَمَّ، “اللُّغة عن أن الله خاطئة أو أُسطوريَّة، أي أنه لا يمكن أبدًا أن يُؤخَذ حرفيًّا”. (ليفيناس 1981 ، 197).
إلَه ليفيناس هو إلَهٌ يمكن للمرء أن يؤمن به، حتى لو لم يكن موجودًا -خاصةً إذا كان كذلك غير موجودٍ- لأنه غير موجودٍ.
كما قال جون ليوين، في إعادة الصياغة مناقشة إيمانويل ليفيناس في “الكُليَّة واللانهاية”، “الله ليس ألُوهيًّا، وهو.. ” في ذاته “… فقط على افتراض الإلحاد الأنطولوجيّ” (بيرناسكوني وكريتشلي،1991 ، 239).
لكي تكون الألُوهيَّة مُقَدَّسة حقًا، لا يمكن أن توجد وجوديًّا. بدلًا من ذلك يتساءل ليفيناس، مُمثِّلًا الكِيَان بامتياز، “ألا يعني الله الآخر عن الكِيَان … انْفِجَار وتخريب الكِيَان؟” (ليفيناس 2000 ، 124-5).
هذا هو أحد الجوانب الأكثر إشْبَاعًا من الناحية الفَلْسَفيَّة في لَاهُوت إيمانويل ليفيناس. بواسطة رفض التَّفكير في الله ككِيَان، والإصْرَار على أن الله غير موجودٍ بهذه الطريقة. إن تجنُّب ليفيناس مشكلة إثبات وجود الله، شَكَّل مفهومًا تقليديًّا.
تساعده رؤيَته على تجنُّب تشابُك الثيودسي التَّقليديّ، من أجل اللَّاهُوت الذي يتنصَّل من التَّفكير في الله ككِيَان يتجنَّب الألعاب البهلوانيَّة المفاهيميَّة المطلوبة للتوفيق بين الإيمان بمثل هذا الكِيَان وواقع الشَرّ الراديكاليّ. هكذا، لأن ليفيناس يرفض فِكرة أن الله كِيَانٌ، فإن تفكيره يُحرِّرنا من بعض أخطر المشاكل التي يجب أن يتعامل معها الإيمان التَّقليديّ.
تَمَّ تسليم هذه الورقة خلال APA مؤتمر المحيط الهادئ 2007 المُصغَّر حول نماذج الله. دونالد إل تيرنر وفورد توريل
المحطة
إضافة تعليق جديد